من دفتر الوطن

مبدأ الجدارة

| حسن م. يوسف

قبل نحو عامين شاهدت فيديو يكرر فيه الغوغائي ترامب اسم الصين عشرات المرات بلهجات مختلفة. والحقيقة أن ما شاهدته من علائم نهضة كبرى خلال زيارتي للصين عام 1998 يبرر قلق الاستعماريين في العالم وعلى رأسهم ضباع أميركا.
عندما أعلن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ في عام 1949 «نهاية مئة عام من الإذلال الوطني» كانت الصين آنذاك دولة ضعيفة يتطاول عليها الجميع، وتشكل خمس البشرية، إلا أن اقتصادها لم يكن يمثل سوى 1،8 % من الاقتصاد العالمي. كان الجوع حاضراً، فأغلبية الصينيين كانوا يتداولون عبارة: «هل أكلت اليوم؟» عندما يريد الواحد منهم أن يطمئن على الآخر، أي أن من كان يحصل على وجبة واحدة في اليوم يكون بخير! والآن بعد اثنين وسبعين عاماً على نهاية «قرن الإذلال»، باتت الصين في المقدمة. فأين يكمن السر في هذه المعجزة؟
بعد انتصار الثورة انعزل الصينيون عن العالم لاسترداد قواهم. وفي عام 1978 بدؤوا وثبتهم الكبرى.
عندما قرر الحزب الشيوعي الصيني التخلص من الجمود العقائدي وتبنى سياسة الإصلاح والانفتاح على يد الزعيم دينغ زهاو بينغ الذي طرح شعارين مهمين: الأول يدعو للبحث عن الحقيقة في الواقع. والثاني يؤكد أن التطبيق العملي هو المعيار الوحيد للحقيقة. وقد تعزز نهج الإصلاح والانفتاح في عام 2013 عندما جاء الزعيم الحالي بينغ برؤية «التجديد العظيم للأمة الصينية». وبفضل هذه السياسات، تَضاعفَ الاقتصاد الصيني 42 مرة، منذ قيام الثورة وحتى نهاية العام الماضي، وأصبح يمثل خمس الاقتصاد العالمي.
أعترف أنني كنت أعتقد، مثل معظم الناس، أن سر المعجزة الصينية هو الاقتصاد، لكنني بدأت أعيد النظر في هذا الاستنتاج منذ أن شاهدت التسجيل المرئي للقاء الباحث (زهانغ وي وي) مدير معهد الدراسات الصينية في جامعة فودان، مع قناة التلفزيون الناطقة بالإنكليزية التابعة للشبكة العامة للبث في الصين. لا ينكر الباحث (وي وي) أهمية الاقتصاد في نهضة الصين الحديثة، لكنه يتوقف عند تجاهل كثيرين لـ«تطور النظام السياسي» ودوره في تلك النهضة. يقول الباحث (وي وي): «قامت الصين بتأسيس نظام «الجدارة» الذي يمكن وصفه بنظام الانتقاء والاصطفاء، حيث يتم اختيار القادة الأكفاء بناء على الأداء والدعم، وذلك من خلال غربلة صارمة واستبيانات للرأي العام وتقييمات من داخل المؤسسات وعدة طرق انتقائية أخرى».
يرى الباحث (وي وي) أن «الصين هي الدولة الأولى في العالم التي استحدثت امتحان الخدمة المدنية، وهذا الأسلوب يتناغم مع الثقافة الكونفوشيوسية المتعلقة بمبدأ الجدارة، أو ما يسمى نظام (الكوجو). «وهو يرى أن الصين اليوم «تمارس بنجاح جيد، إلى حد بعيد، سياسة الجدارة في كل الأطياف السياسية، وتطبق معايير مبنية على محاربة الفقر، وخلق فرص العمل، إضافة إلى بناء الاقتصاد المحلي والتطوير الاجتماعي وحماية البيئة بشكل كبير، وهذه المعايير مجتمعة هي التي تلعب الدور الرئيسي في انتقاء المسؤولين والارتقاء بهم».
ويضرب مثالاً عملياً على تطبيق مبدأ الجدارة فيقول إن: «ستة من بين القادة السبعة أعضاء المكتب السياسي المعنيين باتخاذ القرارات السياسية المهمة في البلاد، أداروا في السابق محافظات أو بلديات محافظات، يوازي حجمها عدة دول مجتمعة».
يرى الباحث (وي وي) أن مبدأ الجدارة «يجعل أشخاصاً ضعفاء كجورج بوش ودونالد ترامب أبعد ما يكون عن موقع القيادة. ونحن نستطيع أن نؤكد أن النموذج الصيني معني بالقيادة وليس بالاستعراض كما في الغرب. »… « فشرعية الدولة تتحدد من قبل حكومة مؤهلة وقادة قادرين على تحقيق وتأمين حاجات الشعب.
لا ينكر البروفسور (وي وي) أن نموذج الانتقاء والاصطفاء لا يخلو من العيوب وما زال تحت التطوير والتحسين، إلا أنه يستطيع أن ينافس وبقوة النموذج الغربي في الديمقراطية الشعبية.
والحق أن التجربة السياسية الصينية لم تنجح في تحقيق أسرع نمو اقتصادي في العالم وحسب، بل نجحت في قبر الفقر وتحسين مستوى حياة أغلبية الشعب الصيني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن