ثقافة وفن

الثقافة والحاجة المجتمعية

| إسماعيل مروة

يعج أدبنا منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا بالحديث عن السياسة والاحتلال والاضطهاد وأدب السجون، وغير ذلك من الموضوعات الأثيرة للأدباء العرب، وبالمناسبة فإنهم لا غنى لهم عن هذه الموضوعات لأنها الواقع الذي يعيشون فيه، ولا يمكنهم أن يتجاوزوه إلى موضوعات أخرى، عندها سيكونون منفصلين عن الواقع وعن الأدب، فمجتمع يعاني من بنية سياسة ذات طبيعة خاصة ومعقدة لا يمكن أن يتجاوز الأديب الحديث عنها، ومجتمع يعاني من هيمنة السلطة الدينية في أدق تفاصيل الحياة المجتمعية والسياسية والاقتصادية والأسرية وأقول المؤسسة الدينية وليس الدين لا يمكن أن يكون فيه الأديب حراً في خياراته وإبداعاته، ومجتمع لا يبتكر ولا يمارس البحث العلمي سيبقى، ورغم اللافتات البحثية أسير القصّ واللصق والسرقة وعدم الوصول إلى أي مستوى أعلى!.
حين بدأت نهضتنا الحديثة علمياً وثقافياً وأدبياً من خلال التواصل مع الغرب والبعثات العلمية، ظهرت شخصيات إصلاحية عظيمة كالطهطاوي ومحمد عبده والكواكبي، وكردعلي وغيرهم كثير، وفي كل ميدان علمي وطبي وثقافي، ولكن هذه الشخصيات تم قتلها على الحقيقة مرة، ومعنوياً مرات كثيرة، فكان منهم في نظر معاصريه الماسوني والمتعامل مع الإنكليز أو مع الألمان! والتهم جاهزة والمجتمع الجاهل يتقبل أي تهمة مهما كانت فظيعة وقاسية، ولا يمكن أن يقوم بتحليلها وتفنيدها!
وجاءتنا الصحافة- ولها الفضل الأكبر في النهضة والثقافة- وما من علم من أعلامنا لم يعمل في الصحف التي كانت المنبر والسلاح من الكواكبي إلى كردعلي إلى العقاد والمازني والرافعي وطه حسين وشوقي وحافظ إلى الزركلي وبدوي الجبل وكل من عرفنا ومن لم نعرف، وكانت هذه النهضة العلمية والثقافية كفيلة بسبب دور الصحافة وأثرها أن تغير في المجتمع وبنيته، ولكن هذه الحقبة تحولت إلى مرحلة تاريخية ماضوية، في كل يوم نقرأ ما جاء فيها، فنعرف ما تركه هؤلاء من علم وثقافة وأدب، أسهمت الصحافة في إغنائه وتطويره ونشره وزيادة مساحاته، فهل كتب الكواكبي «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» لنقرأ وحسب؟!
وهل نقل لنا طه حسين «الأدب التمثيلي اليوناني» لنستمتع؟ وهل صاغ دريني خشبة «أساطير الحب والجمال عند اليونان، لنأخذ فكرة وحسب؟ وهل كتب مصطفى صادق الرافعي «وحي القلم» لنبقى أسيرين للماضي؟ وهل كتب العقاد عبقرياته الإسلامية للتعريف بها وحسب؟ وهل ترجم الخياط وحسني سبح والدكتور الكواكبي وغيرهم كثير «معاجم المصطلحات الطبية» من باب الترف والتسلية والشهرة والمنفعة؟
مرّ هؤلاء التنويريون وكأنهم محطة تاريخية، فلا محمد عبده ولا مصطفى عبد الرازق تركا أثراً في النهضة الفكرية الإصلاحية لممارسة المؤسسة الدينية! ولا ما كتبه الكواكبي كان قادراً على فعل شيء في بنية العقل العربي، وطه حسين هو الوحيد الذي استطاع أن يترك أثراً كبيراً، وذلك في عدد الجهلة الذين يتناولونه وينتقصونه ويشتمونه ويرفضونه ويكفرونه، وهم لم يقرؤوا حرفاً واحداً من كتبه ومصنفاته الإبداعية والنقدية والتاريخية! أرأيتم إلى من يحظر اسم طه حسين في وسائل الإعلام لأن طه حسين كافر؟! وحين تسأله يقول لك: هو كذلك، وهو لم يقرأ شيئاً له، ولم يمسك بكتاب من كتبه؟ أرأيتم من يرى أن نزار قباني شاعر إباحي، وحين تطلب منه الدليل يعجز عن بيت من الشعر! وبالمناسبة ما من بيت إباحي أو يحمل لفظاً صريحاً في شعر نزار كله، بينما شاتمه يتغنى بديوان جرير وشعره، وعليكم العودة إلى ديوان جرير لتحكموا بأن نزاراً شيخ معمم لا يدانيه أحد في تدّينه، ناهيك عن الفرزدق والأخطل!
لماذا لا تتقدم الثقافة؟ سؤال مهم، وجوابه ببساطة يتمثل في أن البنية الفكرية لدينا أو المفروضة على مجتمعاتنا هي ثقافة اجترارية للماضي، وقادرة على قتل نقاط الضوء ببساطة شديدة، وكأنها لم تمرّ، ولو بنينا على ما كان من الحركة الإصلاحية لقطعنا أشواطاً بعيدة، ولكن وبصدق عندما نقرأ ما كتب هؤلاء الرواد الأوائل في النهضة العربية الحديثة قبل قرن من الزمن نكتشف أنهم تجاوزونا عشرات المرات، وبأن ما قالوه نعجز عن فهمه واستيعابه، ولسنا عاجزين عن تطبيقه فقط.
ثقافتنا بحاجة ماسة إلى الثقافة الفردية الانفرادية الإبداعية والأفراد نتبع إبداعهم وآراءهم، ولسنا بحاجة إلى الأصوات المجتمعية «الجوقات والفرق» لأن هذه الجوقات لا تفعل إلا إعادة ما قيل وتكرار صداه، وإذا بقينا في الجوقات عادت ثقافتنا القهقرى وضعنا في المجاهل من جديد، فهل ندرك مجتمعنا وحاجاته الاجتماعية والسياسية والفكرية؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن