قضايا وآراء

المصلحة السياسية والثوابت الثقافية

| د. حسام شعيب

تتشكل الحياة المدنية في معالمها وملامحها وفي الكثير من جوانبها عبر الثقافة والسياسة وبغطاء من الوعي، ومع ذلك فالتغيير الشامل لا يحدث بين ليلة وضحاها.
لعلي لا أغالي إن قلت إن الشعب السوري في مرحلته الراهنة هو من أكثر شعوب العالم، إن لم يكن أكثرها، ولعاً بالسياسة وانهماكاً فيها، فكل فرد فيه تقريباً هو رجل سياسة من «الطراز الأول»، فلا تكاد تتحدث إلى بقّال أو عطّار أو سائق تكسي، حتى تجده يحاورك بالسياسة أو يسألك عنها، ويمكننا وصف هذا الاهتمام بـ«المفرط» الذي بات في أيامنا هذه أكثر تضخماً وإفراطاُ، وذلك ما تعكسه السجالات السياسية في منصات وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية.
ثمة حقيقة لا يعترف بها السياسيون في بعض الأحيان، إلا أنها هي التي توجه قراراتهم وممارساتهم، في الداخل والخارج وهي «المصلحة»، فأينما تكون المصلحة تجد السياسي، وأينما يكون السياسي تجد المصلحة، والمؤدلجون فقط هم الذين لا يحفلون بالمصلحة إذا قدروا أنها تتعارض مع توجهاتهم الإيديولوجية، ومن يقرأ التاريخ القريب والبعيد يجد هذه الحقيقة ماثلة وبوضوح حتى يمكن القول إنها من الثوابت التي تراعيها جميع الأمم إلى يومنا هذا.
إن تقدير المصلحة واتخاذ القرار بناء على هذا التقدير، هو الأساس الذي ينطلق منه السياسي الحصيف في كل زمان ومكان، والإصرار والمكابرة وعدم الالتفات إلى مقتضياتها يعني التفريط بالمصلحة، والقائد الحصيف العقلاني، الذي يتحرى المصلحة ويضعها نصب عينيه لا يمكن إلا أن يلتمس أين تكون ويحث ركابه إليها، غير مكترث ولا آبه بمزايدات وجعجعات المعترضين، سواء أكان من محدودي الأفق والبصيرة من الغلاة المتزمتين، أم كان انتهازياً خبيثاً يحرض ويشنع ليستفز العوام والجهلة على هذا القرار أو ذاك ليمهد لمراميه وطموحاته الطريق في نهاية المطاف.
المأزق الحقيقي الذي يواجه مفهوم السياسة هو انعدام مفهوم المصلحة العامة في ثقافة مجتمعنا، أو أن دلالة مفهوم المصلحة تؤشر معنى سلبياً أو غير أخلاقي! وهنا تكمن إشكالية سوء الفهم التي تنعكس على ممارسة العمل السياسي، فلا يمكن قيام دولة معاصرة إلا إذا توخى السياسي قدراً كبيراً من البراغماتية أمامهم، فيعتبرونها، أي البراغماتية، ضرباً من ضروب النفاق الذي لا يتلاءم مع معتقداتهم الإيديولوجية والدينية.
المرونة والبراغماتية والواقعية السياسية، كلها ضرورات حتمية وحلول لتراكمات أو قرارات فرضتها عوامل الزمن والتاريخ واستدعتها ظروف، لذا قواعد اللعبة السياسية لا تعرف الثبات وتتغير متى ما سنحت لها المعطيات، وهذا بطبيعة الحال ينتهي بتموضع جديد لموقعها.
حينما يتغير مثلاً موقف دولة ما إزاء قضية معينة، فإن هذا لا يعد خطأ أو تجاوزاً، بل هو من حقوقها المشروعة ويعكس قدرتها في التعاطي السياسي، بعبارة أخرى قد تجد دولة تتمسك بموقفها إزاء قضية ما على الدوام رغم تغير الظروف والمعطيات، ما يجعله أمراً لا يمت للسياسة بصلة، بل هو في الحقيقة جمود في التفكير السياسي، لأن تغير المواقف السياسية أمر متصور ومقبول في العمل السياسي، بل أحد مفاعيله، وبالتالي فإن المواقف السياسية تتبدل فهي ليست نصوصاً مقدسة بل لها القابلية للتغيير والمرونة، والعبرة بتحقيق المصلحة وهو المعيار في نهاية المطاف.
هذا الأسلوب يعني تشكل ملامح جديدة في المسرح الدولي وربما يعني أيضاً تحالفات جديدة وبناء شراكات إستراتيجية، وتغير الموقف السياسي غالباً ليس ضعفاً بل هو شجاعة، لأنه إعادة نظر في قرار مبدئي بعد الدراسة والتحميص ومع ذلك فالحلول الجذرية بحاجة لإرادة سياسية قادرة على فعل ما لا يستطيع الآخرون فعله.
وتبقى القضية ما بين دهاليز السياسة وعالم الثقافات والعادات، وإن كان هناك من يرى أن الإيديولوجية هي من تحول دون إقامة مجتمع مدني في عالم العرب، فالمذهبية والطائفية والعشائرية والعنصرية و«الشللية»، أمراض وعلل استشرت في الجسد العربي، فصار الولاء لتلك الأدوات لا الدولة.
ما بين السياسة والثقافة تعيش الشعوب وقد يكون الأثر سريعاً أو بطيئاً، غير أن تنمية الدول لابد أن تكون بوصلتها اقتصادية وثقافية وعلمية، أي إنتاج وعي ثقافي وفكري وتنموي في المنظومة الاجتماعية حتى يصنع الفارق، وبعبارة أخرى لا قيمة للتنمية من دون أن ترتكز على الإنسان أولاً وأخيراً، فالثقافة لا تتغير من جيل إلى جيل، أما المصالح فتتغير، لأن زمن التطور في السياسة والاقتصاد غير زمن التطور في الثقافة والاجتماع، فالأول زمن وقائعي، أي محكوم بزمنية الوقائع، أما الثاني فزمن ثقافي، أي يتعلق بمنطق التطور طويل الأمد، وبين الزمنين تفاوت في التطور، فالزمن المادي الذي تخضع له العلاقات السياسية والاقتصادية، أسرع إيقاعاً من الزمن الثقافي، وهذه نقطة مفصلية تقودنا لهموم السياسة وعلاقتها بالتغيير ولاسيما أنها هي فن الممكن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن