قضايا وآراء

في واشنطن لا صوت يعلو فوق صوت المواجهة مع بكين

| عبد المنعم علي عيسى

برز الهاجس الصيني في السياسات الأميركية بوضوح منذ وصول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى السلطة في واشنطن مطلع العام 2009، ثم تنامى بوضوح أكثر على مدى أربع سنوات من عهد خلفه دونالد ترامب، ومع وصول الرئيس الحالي جو بايدن إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام، بدا وكأن الصين قد أضحت محور كل السياسات الأميركية التي باتت ترسم في ضوء المواجهة معها.
كان بروز ذلك الهاجس قبيل انتهاء العقد الأول من هذا القرن أمراً مشروعاً، أو هو مبرر بمعنى أدق، فالأرقام التي كانت تسجلها ميادين الاقتصاد والتكنولوجيا الصينيين، ومعهما بروز نزعة طاغية في التفكير الصيني ترغب في تجاوز عقدة «السور» التي ظهرت جلية في مشروع، لا ينقصه جموح الحلم اللازم لإنعاش الذات وإعادة بعثها من جديد، كان قد أطلق عليه اسم مشروع «الحزام والطريق» الذي يرمي إلى إعادة إحياء طريق الحرير القديم بكل ما يحمله هذا الأخير من طموح التجديد الذي يهدف إلى ربط أربعة مليارات من البشر بعضهم ببعض عبر «الرابط» الصيني، كان ذلك كله كافي لقرع أجراس الإنذار الأميركية التي راحت بدورها تحاول تصدير «قرعاتها» إلى الغرب الحليف بأربعة أصقاعه، في وقت بدت فيه آذان هذا الأخير نصف صماء تجاه «خطر» داهم لم تجد فيه ما يكفي لبروز هذا القلق، ولم لا؟! فالولايات المتحدة في قرعها ذاك تبحث عن حلفاء وازنين في معركتها الرامية إلى تمديد فترة إقامتها على سدة الهيمنة العالمية، أما الغرب الأوروبي فقد غادر ذلك الحلم منذ وقت ليس بالقصير، حتى «اتحاده» المستمر على مدى ما يقرب من نصف قرن لم يستطع أن يشكل قوة وازنة لها ثقلها العالمي كما يجب، إذ لطالما ظل ذلك «الاتحاد» رهين الاحتماء بالمظلة الأميركية متعددة الأغراض، فكيف والأمر إذا ما بعد نزوع بريطانيا، التي مثلت على الدوام نقطة ارتكاز أوروبا الكبرى، نحو «بريكست» التي قادت إلى مغادرتها البيت الأوروبي في الآونة الأخيرة؟ هذا كله دفع بالغرب الحليف إلى اعتبار المواجهة الأميركية الصينية معركة من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة من حيث الأهمية بالنسبة إليه، أي للغرب، حيث باتت الهموم الداخلية تتربع على عرش الأولويات، لنجد دولة وازنة مثل إيطاليا تسير في غضون عام واحد لا يزيد، وهو يمتد ما بين عامي 2018 و2019، في طريق توقيع 29 عقداً مع الصين تصل قيمتها إلى نحو 7 مليارات يورو، مسجلة بذلك الخرق الأول من بين الدول الصناعية السبع الكبرى في العالم، تلتها شركة فرنسية ألمانية بصفقة تصل قيمتها إلى 30 مليار دولار لشراء 300 طائرة إيرباص، وبالنظر إلى الأمام فإن دولاً مثل البلقان وإسبانيا واليونان وتشيكيا ترى نفسها ميالة نحو الإغراء الصيني الذي يكفي لإسالة لعاب من لا تسيل لعابه، ولربما كان ذلك يمثل واقعية استولدتها أخطاء في السياسات الاقتصادية الأميركية، ففي الوقت الذي كانت فيه واشنطن تفرض الشروط والضرائب على الأوروبيين، كانت بكين تغزو ببضائع رخيصة أسواق هؤلاء، كمن يريد دكَّ الأسوار بمقلاع ناعم لا يحمل الحجارة، وهو يقذف كبديل عنها بـ«المن والسلوى» لا مجال لحيادية معهما.
في الفكر السياسي الأميركي نجد أن هناك بعداً آخر لـ«الخطر» الصيني، فالتجربة الصينية تريد القول: إن الديمقراطية، بمفهومها ونموذجها المعروف لدى الغرب، ليست شرطاً أساسيا للتقدم والإرتقاء وبناء القوة والثروة، وهي، أي تلك التجربة، لا تعبأ بمفهوم العداء الكلاسيكي الذي تجترحه الدول لشد عصب دواخلها، وأن الأولوية هي للعمل والمال والكسب، وكل ما عدا ذلك ثانويات يمكن أن تكون محل مراجعة، أو نقاشات تجري على المستويين الداخلي والخارجي على حد سواء، والتجربة بدت كمن يحث الخطا لتقديم بديل حضاري للعالم مهموم بأمن وتنمية هذا الأخير، عبر عنه الرئيس الصيني شي جينغ بينغ في مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الأخير في تشرين أول 2017 حين قال: «العالم اليوم أمام مقاربة صينية لحل المشكلات التي تواجه البشرية» وهذا طرق بمطرقة من الوزن الثقيل على صاج غاية في الرقة.
مما سبق كله، يمكن القول: إن خيار المواجهة مع الصين سيبقى أولى الأولويات بالنسبة للأميركيين، وهي، أي تلك المواجهة، سوف ترسم معالم القرن الواحد والعشرين بأدق تفاصيله، ومعها السياسات التي سيجري رسمها على المديين القريب والبعيد والتي ستكون هي الأخرى خارجة من احتياجات تلك المواجهة وضروراتها، ولربما عبر هذه الحقيقة الأكيدة يمكن فهم الكثير من دوافع السياسات الأميركية الراهنة، فالتفاوض مع موسكو، الذي شكلت قمة بايدن بوتين في 16 حزيران الجاري، محطته الأخيرة كانت الظلال الصينية بادية فيه بل ومحيطة بكل أروقته، والنسائم التي يرسلها «التنين» في شتى بقاع العالم كانت رائحتها تزكم أنوف المتفاوضين في جنيف، والأمر عينه بالنسبة لسياسات بايدن تجاه طهران، التي تبدي من خلالها الأولى، ميلاً واضحاً للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والمؤكد هو أن غرضها بالدرجة الأولى هو جذب طهران بعيداً عن بكين، أو على الأقل تحييدها في ذلك الصراع إذا ما تعذر فعل الجذب الذي سيكون متعذراً على الأرجح، ولربما كانت الصورة أوضح في الحالة الأفغانية من الحالة السابقة، فالقرار الأميركي الذي اتخذ في 11 أيار الماضي في واشنطن، والقاضي بانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان على أن يخرج آخر جندي من الأراضي الأفغانية بحلول الذكرى العشرين لأحداث نيويورك 2001، هذا القرار المتخذ والذي لا رجعة فيه بالتأكيد، يشير عبر النتائج التي سيفضي إليها إلى حقيقة مفادها أن تداعياته المرتقبة على المواجهة مع الصين تعلو فوق أي نتائج أخرى يمكن أن يفضي إليها، فالولايات المتحدة التي خاضت في أفغانستان حربها الخارجية الأطول من بين كل الحروب التي خاضتها، تدرك أن انسحاب قواتها سيضع الرئيس الأفغاني أشرف غني وحكومته في الوضعية التي وجد سلفه محمد نجيب اللـه نفسه فيها والذي لم يستطع الصمود في السلطة لأكثر من شهرين زائدين عن العامين بعيد انسحاب القوات السوفييتية من بلاده، والذي جاء هو ونظامه نتاجاً لتدخل تلك القوات قبيل ثلاثة أيام من انقضاء عام 1979، وفي التقدير الأميركي فإن حكم طالبان سيكون فعلاً منغصاً للتمدد الصيني، ولروسيا أيضاً التي لم تنجذب نحو الخندق الأميركي لمواجهة هذا الأخير، كما أن إيران، التي ستكتفي بإعلان هدنة مع واشنطن، لن تكون مرتاحة بُعَيْدَ بسط طالبان المرتقب لسلطتها على كامل الأراضي الأفغانية.
في واشنطن الآن لا صوت يعلو فوق صوت المنادين بالاستعداد لمواجهة التنين الذي يهدد بغزو العالم بأسلوب جديد لم يعرفه العالم فيما سبق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن