لا تتوقف الولايات المتحدة الأميركية عن الوعظ شبه اليومي حول من اخترق الحريات، ومن خالف الاتفاقيات الخاصة لحقوق الإنسان، وتطلق تقريراً سنوياً من وزارة خارجيتها حول واقع حقوق الإنسان في العالم، وتحاول بهذا العمل إخفاء قباحة ممارساتها، وسلوكها الذي يخالف القوانين الدولية، دون أن يرف جفن لأي مسؤول أميركي، وحتى الرئيس الأميركي جو بايدن اعتبر اتهامات الرئيس بوتين للولايات المتحدة بانتهاك حقوق المواطنين الأميركيين السود، وحديثه عن السجون السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بأنه سخافة، وهكذا يحاول المسؤولون الأميركيون، رئيساً وأعضاء إدارة، الدفاع عن أنفسهم حينما يوجه لهم أي أحد في العالم اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان، ولكن في الوقت نفسه يعطون لأنفسهم الحق بتسمية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ«القاتل»، والرئيس الإيراني المنتخب إبراهيم رئيسي بأنه نفذ «جرائم إبادة جماعية»، والرئيس بشار الأسد بأنه قاتل ومجرم، والرئيس الصيني شي جي بينغ بأنه يمارس «إبادة جماعية» بحق الإيغور الصينيين وهكذا دواليك، والحقيقة أن أياً من الرؤساء الذين ذكرتهم لا يهتم كثيراً لهذه الأوصاف التي اعتاد المسؤولون الأميركيون إطلاقها على خصومهم السياسيين، وكلهم يتحدثون عن مصالح شعوبهم، والأمن القومي لبلادهم دون أن يعيروا اهتماماً لما تقوله واشنطن، التي انكشف وجهها القبيح داخل أميركا وخارجها، ونظرية الوعظ التي اتبعتها واشنطن لعقود من الزمن أصبحت خلف ظهور الكثيرين من قادة العالم وسياسييه.
نشر الصحفي الأميركي جيريمي سكاهيل كتاباً بعنوان «حروب قذرة، ميدان المعركة: العالم» يغطي فيه بالوثائق والأدلة، والمقابلات المهمة مرحلة طويلة من تاريخ الولايات المتحدة وأدواتها فيما تسميه «مكافحة الإرهاب»، ويكشف ما تسميه الأجهزة الخاصة الأميركية «الاغتيال الاستهدافي» الذي يشمل كل ما يمكن أن تصنفه هذه الأجهزة بأنه تهديد للأمن القومي الأميركي، ويشير في كتابه الموثق إلى الجلسة المغلقة التي عقدت في مبنى الكونغرس لأعضاء من مجلسي الشيوخ والنواب في حزيران 2002، ودعي إليها جزئياً ريتشارد كلارك رجل مكافحة الإرهاب القوي في عهد بيل كلينتون للاستماع إليه، بهدف تقديم مبررات لانتهاك حظر رئاسي على عمليات الاغتيال، استمر لفترة طويلة «حيث فرضه الرئيس الأميركي جيرالد فورد عام 1976، وعززه الرئيس جيمي كارتر بأمر رئاسي حظر فيه على أي شخص وظفته حكومة الولايات المتحدة، أو يعمل بالنيابة عنها، الانخراط في أعمال الاغتيال، أو التآمر فيها»، وبالطبع خلال جلسة الاستماع له أمام أعضاء الكونغرس قال كلارك، وهذا الكلام موثق حسب الصحفي سكاهيل: «لم يكن سجل العمليات السرية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات بالأمر الذي يجلب السرور، إذ دبرت وكالة الاستخبارات المركزية عمليات الإطاحة بالحكومات الشعبية في أميركا اللاتينية وفي الشرق الأوسط، كما دعمت فرق الاغتيال في أنحاء أميركا الوسطى، وسهلت عملية قتل باتريس لومومبا في الكونغو، كما دعمت حتى الانقلابات العسكرية، والأنظمة الديكتاتورية، وبلغت موجة الاغتيالات حداً خرج عن نطاق السيطرة، ما دفع الرئيسين فورد وكارتر لحظر ذلك».
وعلى الرغم من الحظر الموجود نظرياً لكن رؤساء الولايات المتحدة رونالد ريغان، وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وضعوا طرقاً للالتفاف على هذا الحظر، إذ أجاز ريغان غارة جوية على منزل الراحل معمر القذافي عام 1986، وبوش الأب أذن بـغارات على قصر صدام حسين، وعلى منشآت لأسلحة دمار شامل مزعومة عام 1991، وفعل كلينتون الشيء نفسه في العام 1998 ضد العراق، وفي السودان حينما استهدف مصنعاً لأسلحة كيميائية مزعومة، ليتبين لاحقاً أنه بالفعل معمل للأدوية دون أن يحاسب أحد الولايات المتحدة الأميركية.
في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما طور فريقه «لمكافحة الإرهاب» ما سمي «مصفوفة التصفية»، وهي عبارة عن قاعدة بيانات مليئة بالمعطيات عمن تراه واشنطن إرهابياً ومشتبهاً به، وهي التي تقدم خيارات لقتل المستهدفين أو اعتقالهم، وهذا الأمر يشمل حتى المواطنين الأميركيين الذين صدر بشأنهم أوائل عام 2013 «ورقة بيضاء» عن وزارة العدل الأميركية وضعت بموجبها «أسس قانونية العمليات الموجهة القاتلة ضد مواطن أميركي»، وهذه الوثيقة مكونة من ست عشرة صفحة، أكد من خلالها محامو الحكومة الذين أعدوا الوثيقة أنه، وانتبهوا للنص، «لا يتعين على الحكومة امتلاك معلومات استخباراتية محددة تشير إلى أن أحد المواطنين الأميركيين متورط بنشاط في خطة إرهابية، لكي تحصل على موافقة بتنفيذ عملية قتل استهدافي»، وقد أشارت الوثيقة إلى أن قيام «مسؤول كبير مطلع في الإدارة على تقرير بأن الشخص المستهدف يشكل خطراً وشيكاً على الولايات المتحدة، يعتبر أساساً كافياً لإصدار أمر بقتل مواطن أميركي».
لقد جادل المحامون الأميركيون الذين أعدوا الوثيقة عام 2013، بأن تأجيل القتل الاستهدافي لشخص مشتبه به حتى انتهاء التحضيرات لهجوم ما، لن يمنح الولايات المتحدة الوقت الكافي للدفاع عن نفسها، وهو ما يبرر القتل المباشر حتى في حال عدم وجود دليل واضح على تنفيذ هجوم محدد، واعتبر المحامون أن عمليات كهذه تشكل «قتلاً قانونياً في إطار الدفاع عن النفس» وليس «اغتيالاً».
لم تستطع أي جهة قانونية في الولايات المتحدة محاسبة أي أحد في أي إدارة على برامج القتل الاستهدافي، وبقيت الأمور تتوسع وتزداد حسب كل رئيس، لا فرق هنا إن كان جمهورياً أو ديمقراطياً، إذ تشير الإحصاءات المتوافرة أنه في عهد أوباما الديمقراطي قتلت غارات الطائرات المسيّرة 246 شخصاً في باكستان عام 2012، و185 شخصاً في اليمن، وفي الصومال العشرات من الأشخاص، وأما في عهد ترامب الجمهوري فقد ارتكب جريمة اغتيال الفريق قاسم سليماني، والحاج أبو مهدي المهندس في العاصمة العراقية بغداد، واعترف ترامب علناً بجريمته هذه من دون أي وازع أو خجل.
يكتب الصحفي الأميركي سكاهيل في خاتمة كتابه المهم: «أما هذه الأيام فإن القرارات المتعلقة بمن يجب أن يعيش أو أن يموت تحت عنوان حماية الأمن القومي لأميركا، فتتخذ بطريقة سرية، كما أن الرئيس ومستشاريه هم الذين يفسرون وراء الأبواب المغلقة هذه القوانين، بالإضافة إلى عدم وضع خطوط حمر لهذه العمليات بما في ذلك المواطنون الأميركيون»، ليطرح أخيراً السؤال الذي يتعين على جميع الأميركيين طرحه على أنفسهم: «كيف ستنتهي حرب كهذه، هذا إذا انتهت»؟
الحقيقة أن حروب الولايات المتحدة لم تنتهِ، ولن تنتهي على ما يبدو طالما أن رجال الكاوبوي يفكرون كلهم بالطريقة نفسها، ويعتقدون أن الهيمنة على العالم ممكنة بالقوة والقتل، والاغتيال، والاحتلال، وهو منهج أوصل الولايات المتحدة إلى حالة تراجع وانكفاء بسبب عنجهية القوة، حيث خاطب الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر رئيسه دونالد ترامب في 13 نيسان 2019 قائلاً له: «منذ عام 1979 هل تعرف كم مرة كانت الصين في حالة حرب مع أي أحد؟ ولا مرة، وأما نحن فقد بقينا في حالة الحرب، ومنذ أكثر من 242 عاماً من تاريخ البلاد، نعمت الولايات المتحدة فقط بـ16 عاماً من السلام، وهذا ما يجعل الولايات المتحدة أكثر أمة تحب الحرب في تاريخ العالم!»، ويتابع كارتر خطابه لـ ترامب: «لقد أضعنا على ما أعتقد ثلاثة تريليونات من الدولارات على الإنفاق العسكري، في حين لم تُضع الصين بنساً واحداً على الحرب، ولهذا هم يتقدمون عليناً تقريباً في كل المجالات».
وإذا كان الرئيس الأسبق جيمي كارتر قد لخص الأمر بوضوح شديد، فإن السخافة التي تحدث عنها جو بايدن تنطبق عليه فقط، وعلى بلاده، فمن حق روسيا والصين وإيران وسورية أن تدافع عن شعوبها، ووحدتها، وأمنها القومي، ولن تعير اهتماماً بعد الآن لنظرية الوعظ والتبشير الأميركية التي أصبحت أسطوانة مشروخة، تفضحها كتابات الأميركيين، وكتبهم قبل غيرهم.
الأميركيون سخيفون، فعلاً سخيفون، ويا حبذا لو تحدثوا دائماً عن مصالحهم دون عسل حقوق الإنسان المغشوش، والمسموم.