قام بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي بإطلاق وحوشهم الحبيسة لتمزق كل ما يحيط بفيروز على الأرض، بحجة أنها كائن سماوي لا ينتمي لعالمنا المثقل بالأوجاع والأزمات وأنها سفيرة للسماء على الأرض يجب أن توضع فوق كل انتقاد، وأن تقدس كقيمة روحية سامية.
بعض الموتورين من الصحفيين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي صبوا جام غضبهم على ريما الرحباني ابنة فيروز وأطلقوا عليها صفات مهينة لأنها قامت يوم الخميس الماضي بنشر صورة (سيلفي) تجمعها مع والدتها وعلقت عليها: «سيلفي والماضي خلفي».
بعض المتصيدين أشاعوا أن ريما نشرت صورتها مع الأسطورة فيروز طلباً للشهرة، والحقيقة أنها نشرت الصورة بناء على إلحاح كثيرين، فقبل أيام قامت ريما باستلام لوحة تذكارية للأخوين رحباني من مدير مكتب البريد الوطني اللبناني خليل شبير بمناسبة مرور خمسة وثلاثين عاماً على رحيل والدها الموسيقار والشاعر عاصي الرحباني. وخلال نفس اللقاء قام مدير مكتب البريد بتسليم ريما لوحة تذكارية أخرى لطابع قديم كان مكتب البريد قد أصدره تكريماً لوالدتها السيدة فيروز عام 1969، وعندما نشرت ريما الصور تعالت أصوات المتصيدين في مواقع التواصل الاجتماعي، تلومها لفرض نفسها مكان أمها وتتهمها «بإخفاء أمها عن محبيها» و«دفنها في الحياة»! فعمدت ريما تحت ضغط هؤلاء لنشر صورة «السيلفي» تلك مع أمها، فقام هؤلاء أنفسهم بالتطاول على ريما الرحباني والإساءة إليها بحجة تقديسهم لفيروز! والأعجب من ذلك أن بعض ذوي الألسنة السليطة انتهزوا الفرصة كي يتطاولوا على زياد الرحباني ويتهموه بالإساءة إلى والدته هو الآخر، جاهلين أو متجاهلين أن الموسيقار العبقري زياد الرحباني استطاع أن يعطي أمه فيروز عمراً إبداعياً جديداً بدلاً من أن يتركها تموت مع والده عاصي الرحباني.
ليس غريباً أن يتطاول بعضنا (بحجة الحب!) على فيروز وامتداداتها الأرضية، بحجة أنها كائن سماوي، فهذا أمر مألوف في هذه المنطقة الضاربة عميقاً في البغضاء والدماء. هنا قام قابيل بسحق رأس شقيقه هابيل، وهنا صلب المسيح وقطع رأس الحسين، وهنا قام الجلاوزة قبل أيام بقتل الشهيد نزار بنات بدم بارد!
صحيح أن فيروز ليست بالنسبة لأبناء جيلنا مجرد فنانة، بل هي أمينة أسرار قلوبنا وأشواق أرواحنا ورفيقة مشاويرنا، وحاملة رسائلنا الشفهية. ألحان أغانيها صقلت أرواحنا ببطء كما يصقل الموج الحصى، وكلمات أغانيها رفعت ذائقتنا الشعرية وعلمتنا كيف نزرع قلوبنا بين الحروف، وصوتها كان يعطينا أجنحة لنطير إلى عوالم من الجمال والسحر الحلال.
عن فيروز قال أمير شعراء جيلنا محمود درويش: «أغنية فيروز هي أحد أسماء هويتنا العاطفية، هي إحدى رسائلنا إلى الخلاص وإلى الملائكـة… هي الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر، هي التي تجعل الصحراء أصغر وتجعل القمر أكبر».
وعن فيروز قال ملك العشاق الدمشقي البهي نزار قباني: «رسالة حب من كوكب آخر… لقد غمرتنا فيروز بالنشوة والوجود، كل الأسماء والتعابير تبقى عاجزة عن وصفها، إنها وحدها مصدر الطيبة فينا».
لقد حرست فيروز مواعيد العشاق لأجيال عديدة، بل هي الوحيدة التي خوَّلها صوتها الملائكي سلطة تأنيب القمر لأنه يضايق العشاق، بفضل المعجزة الفيروزية تطلع «شمس الشمُّوسة» في أرواحنا كل صباح، وتأخذنا (الغَفْويِّة، تحت وراق الفيِّة). برفقة فيروز نقصد الكروم، نملأ السلال ونقطف الدوالي.
صحيح أن فيروز تتفوق على تصوراتنا عن الملائكة، لكنها ليست ملاكاً، هي امرأة راقية من شعبنا اتخذت الحب ديناً لها، وعاشت حياتها بيننا ودعتنا عبر فنها وسلوكها الراقي لأن نرتقي بأنفسنا لمستواها، والمؤسف أن بعضنا ممن لم يستطيعوا الارتقاء إلى قيم العالم الفيروزي، يتطاولون الآن على شخص فيروز وامتداداتها الأرضية بحجة أنها كائن سماوي لا يشيخ!