قضايا وآراء

أوروبا والسعي نحو التوازن بين أقطاب القوة

| تحسين الحلبي

يسجل تاريخ الحربين العالميتين في القرن الماضي أن الولايات المتحدة ومشاركتها بهما كانت تجري بتحالف أميركي مع إحدى القوتين الأوروبيتين ضد القوى الأوروبية الأخرى وحلفائها وبالإضافة إلى ذلك يشير هذا السجل إلى حرص الإدارات الأميركية في فترة ما بعد هاتين الحربين على ربط الدول الأوروبية الكبرى بحروب أميركية مشتركة في مناطق كثيرة إقليمية مثل الحرب على كوريا في الخمسينيات والحرب ضد فيتنام في الستينيات وكذلك في الحرب على العراق عام 1991 ثم احتلال أفغانستان عام 2001 واحتلال العراق عام 2003 والحرب الكونية على سورية في عام 2011 وهذا يعني أن واشنطن تعد تلك القوى الأوروبية والحلف الأطلسي الذي تسخره لمصالحها قوة عسكرية مباشرة لها في العالم وقوة معدة لمحاربة روسيا والصين وحلفائهما في أي حرب مقبلة. وهذا ما اتضح من تركيز الرئيس الأميركي جو بايدين على دعوته لتمتين قوة الحلف الأطلسي واستعداد واشنطن لتقديم كل ما يحتاجه أثناء مشاركته في قمة أوروبية لهذه الغاية قبل أسبوعين.
ويبدو أن هذا الحرص الأميركي على ضم أوروبا وحلفها إلى أي حروب أميركية مقبلة يعود سببه لمخاوف أميركية من أن تجد واشنطن نفسها لوحدها من دون أوروبا في أي حرب محتملة تعدها ضد الصين وروسيا وهذا ما تدركه فرنسا وألمانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى التي لم تعد ترغب بأن تصبح أراضي أوروبا مسرحاً لحرب عالمية ثالثة من أجل المصالح الأميركية. وفي تحليل يتعلق بهذا الموضوع كان ستيفين فيرتهايم البروفيسور المختص بتاريخ الولايات المتحدة وحروبها في العالم قد نشر مقالاً في 21 حزيران الجاري في مجلته «ريسبونسيبيل ستيتكرافت» دعا فيه إلى سحب القوات الأميركية من أوروبا مستنداً إلى دور فرنسا وألمانيا وبريطانيا في حماية أوروبا ويستشهد بتحليل نشره حديثاً ستيفين والت أستاذ العلوم السياسية الشهير في الولايات المتحدة في مجلة «فورين بوليسي» فيما يبدو أنه تفكير عملي للانتيلجينسيا السياسية الأميركية التي ترى أن أوروبا تستحق أن تكون قطباً عالمياً لوحدها وليس قوة توظفها السياسة الأميركية على غرار ما كان يحدث في الحرب الباردة ضد روسيا وحلفائها في الاتحاد السوفييتي في تلك المرحلة.
لكن الرئيس الأميركي جو بايدن يبدو أنه يفضل السير بنفس السياسة الأميركية التقليدية التي توظف أوروبا في إستراتيجيته فقرر تحويل المناورة البحرية السنوية المقررة في 28 حزيران الجاري التي اعتادت الولايات المتحدة على قيادتها بمشاركة دول من الحلف الأطلسي في البحر الأسود تحت اسم نسيم البحر إلى استعراض قوة أمام روسيا الاتحادية وطلب من 32 دولة من مختلف القارات المشاركة بها معظمها من دول حلف الأطلسي واختار لهذه المناورة اسم «الشراكة العالمية من أجل السلام» بل إن معظم دول البحر الأسود ستشارك بها وفي مقدمها أوكرانيا باستثناء روسيا الاتحادية والدول الحليفة لها هناك ويبدو أن عدد أفراد القوات الإجمالي في هذه المناورة الذي لا يزيد على 5000 جندي و32 سفينة و40 طائرة يدل على مشاركة رمزية لدول كثيرة من بينها دول عربية اعتادت على المشاركة في المناورة العسكرية الأميركية – الأطلسية «الأسد الإفريقي» مثل السنغال والمغرب.
وهذا الاستعراض الأميركي على طريقة أفلام هوليوود لا يعني مطلقاً أن إدارة بايدن قادرة على حشد كل هذه الدول عملياً في حرب مشتركة تكون ساحتها البحر الأسود لأن عدداً لا بأس به من هذه الدول له علاقات متنوعة عسكرية وسياسية مع روسيا الاتحادية وحلفائها بل إن فرنسا وألمانيا لهما وجهة نظر مختلفة عن بايدن في موضوع أوكرانيا لكن واشنطن تسعى إلى تسليط الضوء على أهمية البحر الأسود في سياسة استهدافها لروسيا وحلفائها لكي تزيد من ارتباط الدول الأوروبية بالحلف الأطلسي الذي تهيمن عليه وتقوده لتحقيق مصالحها على حساب مصالح عدد من الدول الأوروبية وخاصة فرنسا وألمانيا فقبل عام تماماً أي في 22 حزيران 2020 كانت المجلة الأوروبية «يوروبيان لو» قد تساءلت عما حدث لدعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي أطلقها في تشرين الثاني 2018 للإسراع في «تشكيل جيش أوروبي، خارج الحلف الأطلسي، لحماية أوروبا من الصين وروسيا ومن الولايات المتحدة» وكانت دعوته هذه رداً على انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة خفض القوة النووية متوسطة المدى الموقعة عام 1987 التي ساهمت في إنهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت. وكانت رئيسة الحكومة الألمانية أنجيلا ميركيل قد دعمت وتبنت دعوة ماكرون «لتشكيل قوة أوروبية عسكرية تدافع عن أوروبا من دون الاعتماد على الولايات المتحدة».
وحول هذا التوجه الذي تقوده باريس وبرلين يبدي عدد من المحللين في أوروبا رأياً جريئاً باعتقادهم أن أوروبا ستتجه عاجلاً أو آجلاً نحو بناء قوة أوروبية موحدة خارج الإطار الأطلسي – الأميركي لتثبيت قرارها المستقل في الساحة العالمية عن السياسة الأميركية وأخطارها المقبلة مع الصين وروسيا وأن الجيش الأوروبي الموحد سيكون بمقدوره إيجاد السبل الكفيلة بعدم تحويل أوروبا إلى ساحة حرب ثالثة للولايات المتحدة وسيكون لأوروبا بواسطته دوراً يحد من احتمال وقوع حرب عالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن