تتابع الحياة ومجرياتها، تحولها إلى مشاهد ساخرة، تتناول رخاءها ولينها، قسوتها وشرورها، تحللها، تجدها تجمع بين المنتج والمستهلك، بين السياسي والاقتصادي، بين الاجتماعي والثقافي والفكري والروحي، تتابع البلاهة والعدوانية الخبيثة والسائدة، تشبهها بالبدائية التي ليس فيها إلا ما في البهائم من الشهوات الأساسية والاندفاعات والمطامع والكراهيات مقابل ندية الحبّ، على الرغم من تشدق الكثرة به، وتسأل أين المدنية؟ أين الجهود المقنعة التي تبذل كي تصد وتكبح جماح الحيوانية البشرية؟ أو على الأقل تعيد لها أقنعتها التي سقطت، فكشفت ما كانت تخفيه، أو لم يغدُ المشهد ميلودراما كوميديا وتراجيديا في وقت واحد، رغم ظهور الحقائق بجلاء والوقائع دافعة لا محالة، أي إن لم يحدث العلاج والتدخل وبسرعة، فإن حلول الفتن واردة، مهما ادعينا أننا في الاستقرار، وأننا متجهون إلى البناء، فأين الإصرار للاتجاه إلى الأمام؟
هاأنذا أعري ما هو قابع ومستقر في أعماق إنساننا، وهذا جدير بالاهتمام، والأهم أن نعترف حتى ولو كنا قليلي المعرفة، بأن الخلل متوافر، وأن العمل على إصلاحه جارٍ، والذي يدفعنا لذلك حرصنا على وجودنا، وإن لم يكن أكثر من غيره إلحاحاً في ذلك، لهذا أدعوكم للاقتراب من الواقع، وألا نؤجل ما يجب الإسراع فيه ووضعه في جدول زمني تقتله الظروف، لذلك يجب ألا نكون دادائيين، نحب اللعنات والسباب، ولا أن نكون في موقف التحديات غير القابلة للتحقق.
كيف بنا ننهي نظرات القلق والهيم من عيون إنسان الوطن بحثاً عن الأفضل ضمن واقع امتلأ بالمرارة والمأساوية؟ صحيح أننا لا ننشد إثارة الآلام، ونضغط عليها، لأن الأصح أن نوفر العلاج ونسعى لتأمينه، هذا الذي يستدعي الفاعلين القادرين على العمل بوحي الوعي الكامل، لأنهم مولعون بإيجاد الحلول المقنعة، مؤمنون بالمرونة والتصلب، يسيطرون عليه في الحركة، أحاديثهم واصلة بحكم ابتعادهم عن الزيف والخداع.
أين كنا؟ كيف صرنا؟ غدت أسئلة بائدة، السؤال المهم الآن: إلى أين سنصير؟ لا تريد الناس الثروة، إنما تريد الانفراج، حتى وإن كان لحين، لأنه يعطيها مساحة تؤسس عليها من جديد، حضورها قائم على الانتصار للحياة، وتقول: لا للحرب ولا للفتن التي تجفف كل شيء.
تريد هذه الناس الابتعاد عن المآسي وعن الشيطنة بالمعنى المجازي، هذه التي أفقدت حضور الابتكار ووجوده، ما أضعف صيغ التنفيذ وحولها إلى اعتياد لا بريق فيه، وهذا الفرق بين الإبداع والابتكار والتحول إلى الوظيفية المفرطة يظهر عجز المجتمع والدولة، إن استمر على إعادة البناء والتسطيح الممل لهيكلية الدولة، التي تتحول إلى اللهاث خلف الموارد، بدلاً من أن تشتغل عبر الشعب السوري بقوة لما تريد، ويريد الشعب الذي اتجه إلى صناديق الاقتراع مؤيداً إيمانه باختياره، الذي جدد له الحب بالحب، رغم أنه مكبل ودولته بالحصار وبالعقوبات وبالضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وعلى الرغم من أن العقل لا يتردد، بينما القلب كثير التردد، إلا أنه وحدهما عندما اتجه لتعزيز خياره للتعبير عما يريد، لم يبعد عن ذوقه المتأمل به، المتمسك بأن الأفضل قادم، وأنه ليس ببعيد، فالشعب لا يؤمن بالتخطيط البعيد، وفي أقصى حالاته يؤمن بالغد الذي خبأ له قرشه الأبيض، صرفه ضمن الأيام السوداء متأملاً أن بعد الغد يجب أن يكون فرجاً.
مؤكد أن هذا الشعب لا يؤمن بالتجارب، ولا يخضع لها، حاله حال رئيسه، الذي يؤمن به، لأنه الحكيم العلمي والاجتماعي والشعبي الجماهيري في آن، ولأنه كذلك ينتظره شعبه في الأمام بإرادة الخلاص من الوراء بكل ما فيه من آثام وآلام وبلاهة وخبث وشيطنة.
لن أطرح أمثلة حية عن تعدد النظريات في الاقتصاد أو في السياسة، فالكتب والمقالات والتقارير تملأ الفكر الإنساني، كلها تنبهنا إلى ما يجب أن يكون عليه، أو ترشدنا إليه، وجميعها لا تستطيع توصيف الواقع من باب خصوصية كل شعب، ودوره دائماً في تقديم الأمثلة والإضاءة على سبل المحاور، فالقوة التعبيرية للجماهير ملتحمة الآن مع قوة تعبير قائدها ورئيسها، وهي في أرقى حالتها، ومؤكد أنها ستنتج واقعاً جديداً جديراً بالاحترام.