قضايا وآراء

موسكو إذ تعرض صورها الملتقطة

| عبد المنعم علي عيسى

لم تكن مصادفة ذهاب سيرغي شويغو وزير الدفاع الروسي إلى ما ذهب إليه في الكلمة التي ألقاها يوم 23 حزيران الماضي، والتي جاءت في سياق الدورة التاسعة من مؤتمر موسكو للأمن الدولي، فهي كانت على بعد يوم واحد من انعقاد القمة الأوروبية التي حرص شويغو قبيل انعقادها على تصدير الصورة التي التقطتها الكاميرات الروسية لواقع التحولات الجارية في القارة العجوز التي يستحضر تاريخها الحديث حقيقة مفادها أنها كانت السبب الرئيس في اندلاع حربين عالميتين بفارق لا يزيد عن ربع قرن فاصل ما بينهما.
ما جاء على لسان شويغو في كلمته آنفة الذكر كثير، لكن أهم ما قاله في سياق عرض وجهة نظر بلاده تجاه حال القارة العجوز إن الوضع الحالي في أوروبا «قابل للانفجار»، وهو «يتطلب خطوات محددة لتخفيف التوترات» قبيل أن يمضي محذراً من «تعزيز نزعة تشديد المواجهة العسكرية في القارة الأوروبية حالياً» ليختم فكرته هذه بلحظ ميل لدى بعض الدول الأوروبية التي قال عنها إنها «مهتمة بتصعيد النزاع العسكري مع روسيا».
قراءة موسكو، التي لم تخل من لكنة تحذيرية، تنبع من معطيات عديدة، وهذه الأخيرة من الوضوح بما يكفي لتبريرها في المآلين اللذين ذهبت إليهما، أي التوصيف والتحذير في آن معاً، فالقارة الأوروبية كانت قد شهدت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية نزعة حثيثة للتعايش والتساكن فيما بين الهويات التي احتوتها، حيث ظهر أخيراً أنها كانت ردة فعل على الانهيارات الحاصلة بفعل الحرب أكثر منها خياراً نهائياً يغوص في ذات الأوروبيين الجماعية، هذه النزعة، أي نزعة التساكن البادية ما بعد الحرب، كانت قد تنامت بمرور الوقت لتؤسس أرضية مناسبة كان من نتائجها ولادة الاتحاد الأوروبي الذي تطورت قوالبه حتى وصلت إلى حدود لافتة، مثل الذهاب إلى إلغاء تأشيرة الدخول فيما بين الدول المنضوية تحت رايته، ليصبح بإمكان المواطن الأوروبي، مثلاً، أن يقطع جغرافيا القارة من أقصاها إلى أقصاها بهويته التي تبرز جنسيته، ولتلك اعتبارات تتعدى في مدلولاتها ظاهرة تسهيل العبور التي تشكل حافزاً على كل المستويات كافة، الاقتصادية والسياسية والثقافية، فهي، أي إلغاء التأشيرات، ترمز في وجه من وجوهها إلى نوع من قبول الآخر الذي يشاركه الجوار حتى وإن اختلفت الثقافات، التي يُرسي اختلافها في كثير من الحالات نوعاً من الافتراقات التي تتحول، إذا ما لقيت غذاءً مناسباً، إلى حال من النفور لا سقف له، وترمز أيضاً إلى اعتراف بأن مصائر الشعوب التي يطولها هكذا سلوك مرتهنة ببعضها البعض، ولذاك حمولات سلوكية – ثقافية من النوع التراكمي المؤثر في طريقة العيش وطبيعة المفاهيم والقيم السائدة، هذه النزعة شهدت انعطافة مهمة في الآونة الأخيرة، والتي لم تكن حادثة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بداية لها، وإنما كانت إحدى الذرا التي حققتها تلك الانعطافة، والتي من المؤكد أنها لن تكون الأخيرة، وإن كان من المرجح أن تظل هي الأعلى نظراً لما تمثله بريطانيا من ثقل في القارة على مستويي الجغرافيا والتاريخ وعمق التجربة.
باتت أوروبا اليوم تعيش حالة نهوض للهويات الوطنية الضيقة، وتلك ظاهرة يجب التوقف عندها، لبحث الأسباب التي قادت إليها بعد تجربة تساكن استمرت لقرابة نصف قرن، وهي في جوهرها كانت ترمي إلى تذويب الهويات، أو أقله إضعاف النزعات القومية المتطرفة التي كانت سبباً في اضطراب القارة في مراحل عدة.
ومنها، أي من تلك المعطيات التي تنبع منها القراءة الروسية، أن محور باريس – برلين الذي شكل تاريخياً محوراً مهماً وضامناً لاستقرار القارة، لم يعد قادراً على لعب ذلك الدور كما كان الأمر عليه في السابق، منذ أن توحد شطرا برلين 1991، ومعه عادت الوحدة إلى شطري الأمة الألمانية، والملاحظ هو أن الفعل مضى نحو إكساب التطلعات الألمانية، المعتدة بثقل حضاري وصناعي واقتصادي لا يجاريها فيه أحد من الأوروبيين، نوع من «مشروعية» الإحساس بالتفوق التي راحت ترخي بظلالها على ذلك المحور، وبمعنى آخر راحت برلين تعيد حساباتها من جديد بما يتناسب مع المعطيات الجديدة، وهذا بالتأكيد يمكن أن يشكل مصدر قلق كبير لدى الجوار، فكيف والأمر إذا ما ارتبط بنزعة دفينة تختزنها الذات الألمانية، ومن الممكن تلمسها عبر العديد من السلوكيات والظواهر وصولاً إلى السياسات، وهي تتمثل بشعور عارم بـ«الظلم» وبأن «الكل» مضى في تآمره على «تفوق» العرق الألماني، وهو ما تغذيه أحزاب قومية متطرفة تجد في هذه المناخات بيئة مناسبة لتمددها، والجدير ذكره هنا في هذا السياق أن هذه المناخات التي سادت منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي هي التي هيأت الأرضية المناسبة لصعود النازية التي جرت أوروبا، والعالم، إلى حرب مدمرة كانت تداعياتها عليها أشد بكثير مما كانت على الآخرين باستثناء الروس.
تصريحات سيرغي شويغو سابقة الذكر والتي حذر فيها أيضاً من أن العالم ينزلق بسرعة إلى نزاع جديد أخطر مما كان عليه زمن الحرب الباردة، تستحضر بالتأكيد هذه المعطيات التي ترقبها موسكو بقلق بالغ، صحيح أن الحرب الباردة هذه المرة سيكون قطباها واشنطن وبكين، لكن الصحيح أيضاً أن القارة الأوروبية، ومن ضمنها روسيا، ستكون بأثقالها المختلفة، الساحة الكبرى التي ستخاض عليها كبرى الجولات، إذ لطالما كانت القارة الأوروبية، ولا تزال، تمثل مركز ثقل حضارياً من شأنه أن يحدد الكفة الراجحة في تلك الحرب التي انطلقت، ولا شك، من دون صدور البيان رقم واحد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن