تحديات جمة تنتظر السياسيين والمفكرين والعلماء والمثقفين، بل وكل مؤسسة وكل مواطن في المرحلة القادمة، مرحلة سبقتها تحولات على جميع الصعد السياسية والعسكرية والاجتماعية واليوم أكثرها تأثيراً وانعكاساً على المجتمع هو «الإدارة».
كثيرون أولئك الذين يتحدثون عن مراحل ذهبية مرت على بلادنا شهدت خلالها نهضة عمرانية وخدمات كانت تعتبر الأولى في منطقتنا العربية، كخدمة النقل والبريد والاتصالات والبنوك وشركات التأمين والصحف والطباعة والصناعة، إضافة إلى عامل الطبيعة الخلاب والذي كان عامل جذب للسياح عبر التاريخ.
ملوك ورؤساء وأمراء زاروا دمشق التي لم تكن تضاهيها مدينة، أُبهروا بما شاهدوا من جمالها وأقسموا وتمنوا أن تتحول بلدانهم مثلها في حينها.
ما الذي يجعل بلداناً في منطقتنا أو الغرب تتحول إلى بلدانٍ متقدمة وبعضها أصبح في مصاف الدول الأولى في العالم بعد أن كانت هذه الدول تحكمها الثقافات المتعددة والأعراق والفساد الديني؟!
كيف استطاعت هذه البلدان أن تنجح خلال أقل من 50 سنة في بناء هذه الحالة الذهنية الراسخة لدى مجتمعاتهم ومواطنيهم للنظر إلى كفاءة الشخص وإمكاناته وقدراته على النجاح والإبداع؟!
يقول بعضنا للبعض الآخر هل كان هناك نمط من الإدارة اليابانية هو الذي كان ولا يزال خلف المعجزة الاقتصادية التي حققتها اليابان، وإن كان هناك إدارة كورية (جنوبية) وهناك إدارة في دول النمور الآسيوية هي التي حققت القفزة الاقتصادية والتنموية لهذه النمور، بل إن دولاً في الغرب على رأسها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا يتحدث سياسيوها وأهل الصناعة فيها عن الأهمية المركزية للإدارة، بل وأخال أن الحديث المتشعب والطويل الذي نسمع أصداءه في بلداننا العربية، عن (الخصخصة) في المشروعات الإنتاجية والخدمية، أساسه (الإدارة).
لعل بعضنا يعتقد أن تطوير الإدارة ونجاحها يعتمدان على وجود أنظمة مادية وفنية حديثة، ولو أن هذا القول يشكل جزءاً من الحقيقة، إلا أن جوهر الإدارة الحقة هو البشر، فالموارد البشرية مقدمة على الموارد المادية مهما علا شأن الأخيرة، فأهداف وحاجات العاملين في المؤسسة يجب أن تتناسق وتتكامل مع أهدافها، فلا يمكن أن ينجح مشروع في تحقيق أهدافه بإهمال العاملين فيه، حجر الزاوية في أي عملية إصلاح أو تطوير الإدارة هو النظر بجدية إلى إنسانية الإنسان العربي وما يملكه من كفاءة ومهارة وخبرة، إذ تشير الدراسات إلى أن الوطن العربي يساهم بنحو 31% من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية ككل، كما أن نحو 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا بوجه خاص، وتوضح هذه الدراسة أن نحو 75% من الكفاءات العلمية العربية مهاجرة إلى ثلاث دول غربية بالتحديد وهي بريطانيا وأميركيا وكندا، ويشكل الواقع السياسي عنصراً مهماً من عناصر هجرة الكفاءات إلى الخارج، حيث تعاني أغلبية البلدان العربية من اضطرابات سياسية تطول أهل العلم والمعرفة، ويتسبب عدم الاستقرار السياسي في نزيف أهل العلم والفكر المحتاج إلى استقرار يمكنه من الإنتاج والإبداع.
لكن الواقع السوري كان مختلفاً تماماً عن الواقع السياسي العربي، فرغم الحرب الإرهابية نجحت الدولة في صنع مجتمع يربط مصيره بوطنه ونجاح الوطن كان مرهوناً بكفاءة القيادة والإدارة فيه وليس بأي رابط آخر.
والسؤال الذي يتردد على ألسنة المراقبين: لماذا الحكومات والإدارات المتعاقبة لم تكن على مستوى كفاءة وإدارة قيادتها السياسية؟ تحديداً كفاءة الرئيس بشار الأسد في إدارة كفة الحرب التي شنت على البلاد.
لماذا يتم تهميش الكفاءات الوطنية وتتحول بعض الإدارات إلى المكافآت الشخصية دون أي اعتبارات لمعايير الإدارة والقيادة؟
لاشك أن كل كفاءة وطنية تحتاج إلى مكافأة ولعل أفضل ما يكافأ به السوريون هو أن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب لخدمة الناس ولتحسين أداء الإدارة ولإفساح المجال للإبداع والتميز.
ولعلي أجمل الهدف الذي أرمي إليه من هذا المقال في مقولة للياباني «ياساتوشي ياشوميرا » فهو يقول: «إن الفشل في استغلال الإبداع الكامن لدى الإنسان يسبب جهله بوجود هذه القدرة أو عدم المبالاة أو بسبب التعنت المقصود ليس هدراً بقدر ما هو خيانة للنفس». وفي بلداننا هو خيانة وطنية وأتمنى ألا نخون أنفسنا، ولا أوطاننا حتى لا يخوننا الحاضر… والمستقبل.