من دفتر الوطن

المارد يتكلم أخيراً

| حسن م. يوسف

عندما زرت الصين قبل اثنين وعشرين عاماً صدف أن جاء مقعدي في الطائرة من موسكو إلى بيجين (التي نلفظ اسمها بكين) قرب رجل أعمال صيني، لن أنسى عينيه الصغيرتين البراقتين ما حييت. ونظراً لأن الرحلة المباشرة تستغرق قرابة تسع ساعات، فقد أبلغت الرجل أنني صحفي أزور الصين لأول مرة، وأود أن أطرح عليه بعض الأسئلة. هز الرجل رأسه مطلقاً غمغمة باردة متحفظة.
آنذاك، لم يكن قد مضى على تقاعد الاتحاد السوفييتي سوى ثمانية أعوام لذا كان من الطبيعي، بعد بعض المداورة، أن أقول لرجل الأعمال الصيني إن انهيار الاتحاد السوفييتي قد جعل الدول النامية، ومن بينها بلدي سورية، مكشوفة تحت رحمة الإمبريالية المتوحشة، فمتى ستستطيع الصين أن تستعيد التوازن المفقود في السياسة الدولية، وتلعب الدور الذي كان يلعبه الاتحاد السوفييتي في الدفاع عن مصالح الدول النامية؟
رمقني الرجل بنظرة جانبية وأطلق نخرة خفيفة من خيشوميه الواسعين، ثم هز رأسه يميناً وشمالاً وعلت وجهه ابتسامة شاحبة يختلط فيها الاستغراب بالاستطراف، وبعد لحظات من الصمت غرز عينيه الصغيرتين في عيني وقال لي بهدوء شديد: «الصين، أيها السيد الصحفي، من البلاد النامية ونحن نسعى فقط لرفع مستوى معيشة شعبنا، وليست لنا أي أهداف سياسية‏ من هذا النوع!».
عندما حدثت الدكتور المرحوم لطف اللـه حيدر الذي كان سفير سورية في بيجين آنذاك، عما قاله لي رجل الأعمال الصيني في الطائرة، أطلق ضحكة طيبة خافتة وقال لي بلطفه المعهود: «من كان جالساً إلى جانبك يا صديقي، ليس برجل أعمال، فمعظم الدبلوماسيين الصينيين يقولون مثل هذا الكلام».
قلت للدكتور لطف اللـه حيدر، لروحه السلام وعطر الياسمين: «هل يعقل أن يكون المارد الصيني أخرس؟».
فأطلق ضحكته الطيبة وقال لي بلطف: «اطمئن، المارد الصيني ليس بأخرس، لكن الصينيين يعملون ويفكرون بصمت، وهم لا يأتون على ذكر الشيء قبل أن يستكملوا استعداداتهم له».
أعترف أن هذه الذكرى لم تبارحني منذ أن قرأت نص الخطاب الذي ألقاه الرئيس الصيني تشي جين بينغ، يوم الخميس الماضي، في ساحة تيان مين الشهيرة، بحضور ما يزيد على سبعين ألف شخص: والذي أكد فيه، أن «زمن اضطهاد الصين ولّى بلا رجعة». والحقيقة أن أكثر ما أثلج صدري في ذلك الخطاب هو قول الرئيس تشي إن بلاده منفتحة على أي نقد بنّاء يأتيها من الخارج، لكنها ترفض ما سماه بنفاق الوعظ الملائكي، الذي تلجأ إليه دول الغرب للتهجم على بلاده.
وقد ذكر الرئيس الصيني المراحل التاريخية القاسية التي مرت بها بلاده، فتوقف عند حروب الأفيون والغزو الاستعماري الغربي، وأكد أن بلاده تمكنت من تخطّي تلك التحديات ونجحت في إعادة إحياء البلاد وبناء مجتمع معتدل الازدهار، إذ تمكنت من إيجاد حلّ تاريخي لمشكلة الفقر المدقع، وهي تسير بخطا واثقة نحو بناء بلد اشتراكي عصري عظيم من جميع النواحي.
وكلام الرئيس تشي تؤكده الأرقام، فقد ارتفع متوسط دخل الفرد الصيني من 195 دولاراً في عام 1980، إلى 10261 دولاراً في عام 2019. أي إن متوسط دخل الفرد قد تضاعف أكثر من 52 مرة خلال أقل من أربعة عقود!
يقال إن الغزاة قد اجتاحوا سور الصين العظيم ثلاث مرات في التاريخ عن طريق رشوة الحارس، لأن الصينيين القدماء بنوا السور من دون أن يقوموا ببناء الحارس كإنسان. لكن هذا بات من الماضي، وقد أشار الرئيس تشي إلى أن سور الصين العظيم بات سورين، واختراقه يتطلب اختراق مليار ونصف مليار صيني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن