في التاسع من شباط 2020 أصدرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية عنوانين عميقين الأول: «مصر كانت سيدة نهر النيل من آلاف السنين» والعنوان الآخر «من دون مياه النيل لا توجد مصر» ويدرك معظم الناس والدول هذه الحقيقة وفي التاسع من شهر تموز من عام 2020 نفسه نشرت مجلة «إكسبريس تريبيون» تحليلاً تحت عنوان « سياسات المياه: إثيوبيا ومصر وإسرائيل» ترى فيه أن «إسرائيل وجدت أثناء تطورات الأحداث الداخلية في مصر عام 2011- فرصة ثمينة لتمتين تعاونها مع دول منطقة شرق أفريقيا بهدف إنشاء قواعد أمنية وعسكرية واقتصادية ثم جاءت زيارة رئيس وزراء إسرائيل السابق بنيامين نتنياهو لأديس أبابا في الأول من أيلول 2019 التي رأى فيها رئيس الحكومة الإثيوبية دعماً سرياً له مع بداية تجميع مياه سد النهضة الإثيوبي من دون موافقة الحكومة المصرية» وواجهت مصر هذا التحدي الإثيوبي المدعوم من إسرائيل بشكل خفي وأصبح من الطبيعي بعد عام أن يتحول موضوع السد ومياه النيل إلى قضية إقليمية تخص مصر والسودان وإثيوبيا بل إلى قضية عربية وإفريقيا وعالمية تخص ما يقرب من 145 مليوناً من العرب هم سكان مصر وسكان السودان؟
وإذا كانت إسرائيل تتجنب الكشف العلني عن مصالحها الإستراتيجية مع إثيوبيا فإن جميع دول العالم تدرك أن كل عامل يؤدي إلى إضعاف مصر واستنزاف قدرات شعبها من الطبيعي أن يشكل مصلحة إستراتيجية لإسرائيل، فما بالك حين تحقق لها هذه الغاية دولة مثل إثيوبيا التي يبلغ عدد سكانها 115 مليوناً أمام 105 ملايين من المصريين وما بالك حين يكون سبب النزاع هو تهديد مصر بسلاح المياه؟!
وتكشف مجلة «إكسبريس تريبيون» أن توقيت زيارة نتنياهو في أيلول 2019 كان دقيقاً لأنه توافق مع توقيع عقود تتعلق بدراسات تقنية للسد نفسه، وإضافة إلى ذلك تبين أن إسرائيل تحاول أن تضمن أمنها في المياه على المدى البعيد بواسطة مشاركتها بالحصول على حصة من مياه نهر النيل بسبب دعمها لمشروع إثيوبيا وقد قامت إسرائيل بتزويد أديس أبابا بنظام دفاعي جوي متطور يدعى «سبايدير إم آر» الذي يقال إنه معد لضرب طائرات متعددة من مسافة 40 كم بدقة لحماية هذا المشروع من كل المتضررين العرب منه.
ويبدو أن إسرائيل لا يمكن أن تكف عن العمل على إضعاف أي دولة عربية مجاورة لحدودها وأي دولة تحمل لها الأخطار بالمستقبل القريب أو البعيد ولو عقدت معها اتفاقات «سلام» ولذلك وجدت أن هدفها الذي فشلت في تحقيقه عن طريق تمزيق وحدة الشعب المصري يمكن تحقيقه في هذه الأوقات عن طريق تحريض إثيوبيا والاتفاق معها على مواجهة مصر بسلاح المياه على أمل أن تحقق مع إثيوبيا هذا الهدف على المدى القريب والبعيد.
لكن معظم دول العالم تدرك أيضاً أن مصر لا يمكن أن تسلم بهذا العدوان غير المسبوق في تاريخ علاقتها بالنيل عبر آلاف السنين وللآلاف المقبلة وهذا الشعور والموقف يحمله مع الشعب المصري الشعوب العربية كافة وخاصة شعب السودان الذي سيناله ما ستتعرض له مصر من إثيوبيا، وتشير المصادر الإسرائيلية العبرية إلى أن فكرة استغلال مياه النيل كانت موجودة منذ عام 1974 باسم خبير المياه الإسرائيلي «اليشاع كالي» الذي تحدث عن هذا المشروع ووضع مخططه لتحويل مياه من النيل إلى أراضي النقب الجرداء جنوب فلسطين المحتلة منذ عام 1948.
وفي النهاية نجد أن هذه الأمة لا تزال تتعرض لأخطر المؤامرات التي تستهدف كل مصادر حياتها وثرواتها لحرمانها من امتلاك وسائل القوة والمنعة والسيادة وخاصة في هذه الأوقات التي تسلل فيها الانقسام إلى الواقع السياسي في العالم العربي بدعم أميركي لمصلحة إسرائيل.
ويبدو أن ما يسمى عقيدة «الأمن القومي» للكيان الإسرائيلي التي وضعها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق دافيد بن غوريون عام 1955 بدأت تطبق جدول عملها في استخدام دول الجوار غير العربية للعالم العربي مثل إثيوبيا ودولة جنوب السودان ضد مصر والسودان ومثل تركيا ضد سورية والعراق بهدف استكمال المشروع الصهيوني من الفرات إلى النيل، فها هي تركيا تحاصر من منابع وممرات نهري الفرات ودجلة كلاً من سورية والعراق وبشكل سافر، على حين تتحالف إسرائيل مع أنقرة وأديس أبابا ضد كل العرب وبالمقابل تسعى واشنطن وتل أبيب إلى تدمير الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تناهض هذه المؤامرات وتعد نفسها ركناً في محور المقاومة لحماية المنطقة واستقلال دولها.
ولا شك أن استعادة وحدة وتضامن الدول العربية بعضها إلى جانب بعضٍ هو الرد والحل الطبيعي الذي يمنع مصادرة ثرواتها الطبيعية والاقتصادية ويصون مستقبل سيادتها وازدهار شعوبها.