ثقافة وفن

التضحية…. حالة إنسانية سامية تجردت من أنانية الذات … هل نجرؤ فعلاً على تقديمها من دون مقابل؟

ديالا غنطوس :

التضحية.. كلمة يصفق لها كثيرون ولا يتقنها إلا قلائل، كم مرة نادينا بالتضحية وآمنا بها قولاً.. لا فعلاً، ولم نجرؤ على تجربتها خوفاً من أن تنكسر صورتنا في مرآة ذاتنا، هو فعل عظيم يحتاج إلى الكثير… الكثير من العزيمة والإيمان بجدارة من نمارس تجاهه فعل التضحية، فهل نستطيع حقاً أن نضحي بأموالنا وأهدافنا وطموحنا أو نموذج حياتنا لأجل الظفر بمن نحب؟ هل نحن قادرون على التنازل عن أحلام رسمناها وواقع عشناه لأجل لحظة حب حقيقية؟.. وما الذي ينتظرنا إذا ضحينا بأغلى ما لدينا لنكتشف زيف من صنعنا لأجله كل ذاك؟ لكن بالمقابل لابد من وجود من يستحق.. على الأقل بالنسبة لنا.
مما سبق سنجد مسوغاً منطقياً للعلاقة الجدلية التي جمعت بين النجم ريتشارد غير والفاتنة جوليا روبرت في فيلم «إمرأة جميلة Pretty Woman»، حالة من الانجذاب الاستثنائي وُلدت بين رجل ثري أنيق متخصص في الاستيلاء على الشركات المتعثرة ثم بيعها بقيمة أعلى، وبين فتاة جميلة من بنات الليل أميَّة قادمة من قاع المجتمع الغارق في الفقر والعوز، تبدأ القصة حين يسافر الرجل في رحلة عمل إلى لوس أنجلوس ويتلقى دعوة لحضور إحدى المناسبات الاجتماعية فيبحث عن فتاة يستأجرها لترافقه لقاء مبلغ من المال، ويقع اختياره مصادفة على إحدى بنات الشارع وهي في الحقيقة عاهرة وتعتبره مجرد زبون، فتمضي معه فترة رحلته التي تمتد لأسبوع، وهي مدة كافية لأن يكتشف كل منهما الآخر حيث يلامس الرجل أحاسيس الفتاة المرهفة وعفويتها ويطلع على ظروف حياتها القاسية وما فيها من معاناة، وهي بدورها تلاحظ أنه زبون غير تقليدي يعاملها بلطف كإنسانة لا كسلعة ويسأل عنها ويشعر بها بأسلوب لطيف لا يمتلكه الآخرون، تتطور العلاقة حين تأخذه بعيداً عن عالمه المنمَّق المزدحم بالمال والصفقات والتوتر والمفتقر للعاطفة والصدق، وهو بدوره ينتشلها من عالمها المكتظ بالناس المسحوقين الذين ينهشهم الإدمان والجوع والجهل ويحقق لها قدراً من الترف والرفاهية لم تحلم بهما يوماً، تتطور العلاقة حين يجد كل منهما ضالته في الآخر وتتغير أشياء كثيرة بداخلهما باكتشافهما دواخلهما الخفيّة، فهو يمتلك قلباً مازال يخفق وقادراً على العطاء والحنان بعكس ما يبدو عليه من قسوة وعدم اكتراث، وهي بنقاء قلبها تبحث عن أي شيء ينقذها من مهنتها الرخيصة التي تعطي الآخرين انطباعاً معاكساً ومشوِّهاً للإنسان التي بداخلها، فكانت التضحية هنا بصورة مغايرة للمعتاد، فالرجل لم يضح بأمواله ولا بأعماله، بل ضحى بما قد يكون أصعب وهو نمط حياته ومنظومته الفكرية التي كانت مبنية على الترف واللامبالاة واستغلال انهيار الآخرين، فتحول من تاجرٍ ومضاربٍ شرس إلى إنسان حقيقي يشعر بآلام الآخرين ويساعدهم، لعله خسر شيئاً من المال القذر لكنه بالمقابل كسب نفسه ووجد في تلك الفتاة الحب الذي لطالما افتقده وبحث عنه.
وتتجلى التضحية أيضاً بأسمى معانيها في القصة الحقيقية للعالم الأميركي «جون ناش» الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، وجرى تقديمها في فيلم «عقل جميل Beautiful mind» من بطولة «راسل كرو» مؤدياً دور جون ناش و«جينيفر كونللي» التي تلعب دور زوجته إليشيا، القصة تبدأ مع بدء ناش عمله بتدريس صف التفاضل والتكامل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأثناء لقاء دار في مكتبه مع تلميذته المتفوقة إليشيا يقعا في حب بعضهما البعض وتتطور العلاقة إلى الزواج، وتبعاً لتفوقه العلمي يُدعى ناش إلى مبنى البنتاغون للقيام بحل شفرة معقدة في الاتصالات اللاسلكية الملتقطة للعدو، ومن هنا تبدأ معاناته من حالة من الفصام، حيث يتخيل أنه ينفذ مهمة للبحث عن نماذج في الصحف والمجلات بهدف وقف مؤامرة سوفييتية، ويتوهم بأنه بات هدفاً للعملاء الروس الذين يطاردونه مما يصيبه بجنون الارتياب ويهمل عمله ويعاني من اضطراب بالتفكير، فيتم إدخاله مجبراً إلى مصحّة نفسية، وحينما يواجَه بالأدلة التي تنفي مزاعمه يعترف بأن كل ذلك مجرد وهْم وهلوسات تسكنه، وبعد مضي فترة من العلاج أطلق سراح ناش بشرط تناوله أدوية للعلاج النفسي، على الرغم من الآثار الجانبية للدواء الذي يؤثر على قدرته الجنسية مع زوجته، ليتوقف لاحقاً عن تناول الدواء ما يؤدي لانتكاسة بحالته النفسية، ويترافق كل ذلك مع تخيله لوجود أشخاص وهميين يتبادل معهم الكلام، أحدهم صديقه تشارلز الذي دفعه مرة لإغراق طفله في حوض الاستحمام قبل أن تنقذه زوجته ومن ثم شجعه على قتل زوجته، التي هربت من المنزل خوفاً على طفلهما، إلا أنها لاحقاً تقرر العيش مع حالته غير الطبيعية ومجاراته في أوهامه، ومع تقدمه في العمر يحصل ناش على موافقة لحضور صفوف الرياضيات ويفوز بالنهاية بميزة التدريس ليفوز لاحقاً بجائزة نوبل في الاقتصاد لعمله المبدع على نظرية الألعاب، وحين ذهب لاستلام الجائزة وجَّه عينيه إلى زوجته وقال «أنا هنا الآن.. فقط لأنك معي». إليشيا الزوجة المثال في التضحية على الرغم من تقلبات سلوك زوجها، وعجزه الجنسي، وتعرضها هي وطفلها للقتل، إلا أنها آثرت البقاء مع زوجها الذي أحبته ودأبت على تشجيعه وتحفيزه على مواصلة العمل وعدم الاكتراث بسخرية الآخرين، فمنحته الثقة بالنفس لتوصله إلى ما حققه من نجاح على حساب حياتها وراحتها.
أما التضحية التي بلغت مداها ندركها في الفيلم الهندي «سواد Black»، الذي يقدم قصة تختصر معاني الصداقة والتضحية والأمل بين شخصين جمعتهما علاقة خاصة جداً، المعلم ديبراج ساهي «أميتاب باتشان» وتلميذته الصغيرة ميشيل العمياء والصماء والبكماء التي تعيش ظلاماً مطبقاً يعزلها عن العالم الخارجي، مع أبوين يتجاهلانها ويعاملانها بتجرد كامل من معاني الإنسانية، من دون قصد إهانتها لكن لعدم قدرتهما على التواصل معها، كحالة ميئوس منها بلا أي أمل، إلى حين قدوم المعلم «ديبراج» الذي أوكلته والدتها مهمة العناية بها، وهو بدوره آمن بنفسه وبالطفلة وبقدرته على إدخالها عالم النور فبدأ رحلة تعليمها، عن طريق لغة الإحساس والإدراك، بدأ بتعليمها السلوك الحسن، ومن ثم لمس الحروف، ولاحقاً التعرف على الأشياء كملامسة الماء والطعام والمواد، فخلق لديها الوعي وتعرفت إلى أمها وأبيها والأشخاص المحيطين بها، وتعلمت معاني الكلمات والتعبير عن نفسها، ومع تقدمها بالعمر التحقت بالجامعة وهو مازال ملازماً لها في كل تحركاتها، وهي ترى العالم من خلاله. لم يقتصر دوره على التعليم، فقد جاءت اللحظة التي اكتشفت فيها ميشيل الأنوثة في تكوينها ومشاعرها، وبما أن المعلم كان الرجل الوحيد في عالمها المظلم فقد طلبت منه قُبلة، وبما أنه أكثر الناس إحساساً بها، منحها حاجتها المتمثلة بالقبلة المحرَّمة، ودفعه ذلك لتوديعها وتركها وحيدة في عالمها الأسود، بعد أن أدى رسالته وحولها من إنسانة همجية إلى فتاة مبدعة ومتعلمة، ليدخل المعلم العجوز بعدها في عالم من السواد المختلف، السواد الذهني لإصابته بالزهايمر، ما دفع ميشيل لرد الجميل بمساعدته على التذكر من خلال حكاية قصتها له بشكل يومي، لعله لا ينساها وتبقى وحيدة. تمكن المعلم من خلال تضحيته مع تلميذته من تعويض شعوره بالفشل بعد طرده من التدريس، فكان نجاحها بالتعلم هو المقابل المنتظَر بحد ذاته، حيث تمكن الطرفان من تعويض الحرمان الذي عانياه بشكل مشترك.
تلك هي التضحية بأبهى صورها، هي أن نُتقن سعادة الآخر قبل سعادتنا، وأن نفرح بفرحه بما حققناه له، أن نفخر بفخره لما قدمناه له، قد لا نضحِّي حباً بالمضحى من أجله، بل رغبة منا بالتضحية بحد ذاتها، فالمُقدِم على التضحية كاسبٌ في جميع الأحوال، إن بادله الآخر المعروف بمثلهِ، وإن لم يلق عرفاناً فقد نال شرف التضحية التي يهوى!. وأختم بقول للمغني بوب مارلي «الحقيقة المؤلمة هو بأن الجميع في يوم ما سوف يجرحك لكن عليك أن تختار من يستحق التضحية بذلك الألم من أجله».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن