ثقافة وفن

هل تصح نبوءة هيدجيز في رحلة وداع أميركا؟ … لا يوجد حزب سياسي في أميركا والحزبان في قبضة سلطة الشركات

| إسماعيل مروة

منذ سنوات بعيدة زادت على عقدين، وتحديداً منذ غزو أفغانستان، ومن ثم غزو العراق واحتلاله تطلع علينا دراسات وكتب لكتاب أميركيين، وجميعها تنتقد الإدارات الأميركية المتعاقبة، وتفضح ارتباطات هذه الإدارات بالشركات العالمية الكبرى ومتعددة الجنسيات، وأحياناً تكون هذه الدراسات لغربيين غير أميركيين، فقرأنا (الدولة المارقة) وقرأنا (الخديعة الكبرى) وقرأنا كتباً كثيرة كلها تفند بيئة الولايات المتحدة وإداراتها، والبنية الاقتصادية الهشة! حسب آرائهم، والتي ستؤذن بانتهاء الولايات المتحدة، والمتابع يتذكر أن بعض المواعيد التي وضعها محللون قد مضت ولم يحدث شيء يشي بذلك سوى التحكم الأكبر بمفاصل الاقتصاد، ومستقبل العالم!

بين الانتماءات والميول

كما في الدراسات المتعلقة بروسيا، والتي يكتبها كتاب رأسماليون واشتراكيون منقلبون ومتضررون، وأصحاب أمنيات، تمضي ويمضي وقتها ولا تتحقق كذلك الأمر بالنسبة لأميركا..! فعندما انهار النظام السياسي السوفييتي أيام غورباتشوف لم يبق كاتب في العالم لم يحاول النيل من الاتحاد السوفييتي والشيوعية والأنظمة الشمولية، وتناثرت دول الاتحاد السوفييتي، ودبت الفوضى في مجمل الدول ومنها روسيا، وتحولت روسيا في عهد يلسن إلى دولة هشة، وفات الجميع أن الاتحاد السوفييتي لم يكن دولة ضعيفة ومتخلفة، وبأن ما عصف به يمكن أن يستمر أو ينتهي وانقلبت الموازين بتسلم بوتين، وبدأت روسيا تدريجياً العودة والاستفادة مما تملك من قوة عسكرية واقتصادية وبشرية، ومن انتماء وإخلاص لروسيا، ودون إعلانات ظاهرة كانت الدول التي شكلت الاتحاد السوفييتي على علاقات وطيدة مع روسيا، وعلى تعاون وثيق خاصة في الميادين النووية والعسكرية (كازاخستان مثالاً).. فانهيار منظومة فكرية في الفكر الشيوعي لم يكن قادراً على إنهاء دولة ونظام يملك مقومات النجاح والبقاء.

وهذا الأمر ينطبق منذ عقود على الولايات المتحدة، وربما كان مع أميركا أكثر صعوبة، لأن البنية الاقتصادية تختلف جوهرياً عن البنية الاشتراكية، ولأن تشعبات رأس المال الأميركي أو الذي تتحكم به أميركا من القوة بمكان، بحيث يصعب أن يكون الانهيار كما صوروه، فثمة فرق بين التوجهات والأمنيات، وأغلب هذه الدراسات صادرة عن كتاب يقفون ضد الرأسمالية والشركات العالمية الكبرى، أو عن مؤلفين يتمنون زوال أميركا ويحلمون برؤية هذه النهاية، فهل ستكون الأمور كذلك؟ وهل ينطبق على اقتصاد عالمي متين يحكم العالم ويتحكم به منذ سنوات وعقود، وأكثر من قرن، وارتبط به العالم الاقتصادي ما ينطبق على اقتصادات هشة منعزلة؟!

أميركا رحلة الوداع

كريس هيدجيز كاتب وصحفي أميركي له عموده الصحفي، وله كتبه ودراسات يصدر علينا بكتابه (أميركا.. رحلة الوداع) وفي هذا الكتاب يضع المؤلف جملة من الأحداث والاستخلاصات والتوقعات التي تشي باقتراب رحيل أميركا في رحلتها الوداعية! لابد من الإشارة إلى ما تضمنه الكتاب، وهو معروف لدى جميع الناس، وهو ما يتعلق بزوال الدول، وبأن الحضارات تنتهي، وهذا أمر من سيرورة الزمن، فذكر الحضارة الإغريقية وما بين النهرين والفرعونية والرومانية وسواها، وها هي قد رحلت عن الدنيا ولم تعد موجودة! طبعاً هذا الأمر ليس اكتشافاً، وليس مرتبطاً بزمن محدد، فهذه الحضارات عاشت وزالت ضمن إطار التحول الزمني ولكن بعضها عاش قروناً طويلة، وبعضها كالحضارة العربية التي كانت مهيمنة وفاعلة لم تتجاوز قرناً ثم انغلقت على نفسها، ونحن ما نزال نتغنى بتاريخها وحضارتها، وهناك حضارات لم تعش سوى سنوات، وهناك حضارات امتدت وامتدت، فطبيعة التاريخ كما يذكر ابن خلدون في نظريته الاجتماعية تقضي بوجود دول وحضارات، وتقضي بحتمية زوالها ذات يوم، والمؤلف استخدم هذه المقولة دون أن يشير إلى ابن خلدون إشارة أو صراحة، وترك الأمر على إطلاقه، فهل أميركا في رحلة الوداع؟ وهل الدولار سيتخلى عن التحكم بالاقتصاد العالمي؟ وهل ستفعل الطبيعة فعلها وتدمر أجزاء من أميركا؟ وهل ستعمل النخب الأميركية على فعل أشياء تتنافى مع أقوالها مؤتمرة بما يراه المؤلف تحكماً بالعالم ومسيرته؟ وبسؤال أكثر وضوحاً: هل أميركا حقاً في رحلة الوداع؟ متى ستكون؟ كم ستستغرق هذه الرحلة؟ أليس من الممكن أن يتفتق الفكر الاقتصادي والسياسي عن نظريات تؤجل هذه الرحلة التي رآها هيدجيز حتمية؟

أسئلة كثيرة تطرح ونحن نقرأ هذا الكتاب الجدير بالقراءة سواء كان حقيقة أم أمنية، والذي صدر في لغات عدة، وكان الأكثر مبيعاً في العالم، وها هو يصدر باللغة العربية في دمشق عن دار الرضا وبترجمة خبيرة من المترجم حسين صلاح الدين، وهي فرصة طيبة ليكون القارئ العربي أمام رؤى أميركية حول ما يجري في العالم، وربما لمس من هذا الكتاب وأمثاله أن الهمّ الأميركي أكبر منا ومن دولنا، وأن ما يعنينا ليس أكثر من سقط متاع لدى هذا النظام العالمي وقراءة متمعنة في الدراسات الناقدة الغربية، والأميركية خاصة تظهر أن الحرص على بقاء هذا النظام هو المنطلق إليها، والتنافس ليس أكثر من تنافس أجنحة أو أشخاص يقومون على تنفيذ سياسة ممنهجة ومؤسسة ومدروسة وفق رؤى إستراتيجية بعيدة المدى، لا تتعلق بدولنا كما نظن بقدر ما تتعلق بازدهار المؤسسات الحاكمة الكبرى دون النظر إلى الأفراد والدول إلا بمقدار ما يحقق السعادة للنخبة، وقد ينال الفرد شيئاً منها.

تساؤلات مشروعة

عند نقل هذا الكتاب إلى العربية قدّم له الناشر مقدمة مهمة تقوم على دراسة تفاصيل الكتاب وطروحاته، وهذه المقدمة تقدم تساؤلات مهمة، وتجلس موقف المترقب لما يمكن أن يحدث «هل هي نهاية الولايات المتحدة الأميركية والهيمنة الغربية على العالم؟ هل هي شهادة النهاية والفشل للإمبريالية العالمية؟ أم هي استظهار التأزم والإغلاق لتعزيز السيطرة وتجديد العبودية للبشرية؟ مليارات الكاميرات تراقب البشر فتزيد من عبوديته وتلغي أي ادعاء لحرية الفردانية والإبداع والحداثة».

أسئلة وطروحات ذكية تستمد قيمتها من الحاضر الذي نحياه، والذي يبشر الكثيرون من خلاله نهاية النظام العالمي الحالي! لكن الناشر الباحث يقف مستقرئاً وحذراً من أن يحدد الغايات كما فعل المؤلف ويتابع الخوري في تقديمه «أميركا اليوم تعترف بأنها دخلت في أكبر كساد اقتصادي عالمي وتراجع ناتجها الإجمالي مع أزمة كورونا 33 بالمئة، وطبعت خلال شهر حزيران 2020 دولارات بلا رصيد بحجة الإنعاش والتحفيز، أكثر من خمسة تريليونات دولار، أي أكثر مما طبعته خلال مئتي عام من بدء طبع الدولار الأميركي. مستقبل العمل قاتم، والمصانع بشكلها التلويثي إلى زوال، وطرق ممارسة العمل في الشركات انتقلت إلى العالم الافتراضي، وحالات العمل والدراسات عن بعد وما تحمله من حالات ضعف إنساني واجتماعي، وتباعد عن مفهوم المجتمع المدني الحديث».

إن ما تعج به هذه المقدمة المستخلصة من مراجعة الكتاب وقراءته تشكل مفاتيح للقراءة.

ونوافذ للتفكر فيما يمكن أن يكون في ظل ظروف صعبة، وكذلك يضع الإطار الصحي دون لبس في خدمة المشروع السياسي من حيث العمل والكساد، وفرض قيود على العمل والمجتمع والإنسان بحجة العمل الصحي، وضرورة انتهاج سياسة عمل جديدة تناسب القادم!

الكتاب والمحتوى

عرجت في كثير من الجمل والتعابير على ما يحتويه الكتاب، وللحق فإن هذا الكتاب ليس كالكتب الأخرى التي تناولت أميركا بالدراسة والنقد، فهو لم يعمد إلى دراسة سياسية أيديولوجية وحسب، بل كانت دراسة مجتمعية سياسية أخلاقية، أقول هذا لأن كتاباً يتحدث عن رحلة الوداع لأميركا يفترض أن يتناول الجوانب السياسية والأكثر خطورة في الجوانب الاقتصادية، ومن استعراض الكتاب وقراءته ومحتواه نجد أمراً أكثر عمقاً وموشورية في تحليل المجتمع الأميركي وبنيته، إذ يقع الكتاب في سبعة فصول تضم عدداً كبيراً من العناوين والقضايا الفرعية الصادرة عنها.

1- الفصل الأول الانحلال (سكرانتون، الإنقاذ، معاناة الطبقة العاملة، تبخر الأموال، غرافسي، عقلية القطيع، الإضرابات، اليمين المسيحي، الفاشتسية واليمين، الزنوج..).

هذه عناوين عديدة من التي تتحدث عن بداية تحلل المجتمع الأميركي، ويبدأ المؤلف قصصياً للحديث عن منشآت عظيمة صارت خاوية اليوم، وتحولت إلى أبنية للأشباح، ويلاحظ من هذا الفصل والعناوين بحث المؤلف عن الجوانب المتعلقة بفساد التوجهات الرأسمالية، وعدم اكتراثها بالمصالح العمالية، وإنما الذي يعنيها فقط هو الأموال وجمعها.

2- الهيروئين: (هيروئين ومومس، الجرعات المفرطة، الأطباء عديمو الضمير، شركة بيردو، التحول إلى السرقة، الفنتانيل المميت، الحرب على المخدرات).

وهذا جانب مهم وفصل يحاول من خلاله المؤلف أن يؤكد التفتت الاجتماعي والصحي في المجتمع الأميركي، في ظل تكالب النخبة على دفع الأميركي إلى عالم المخدرات خدمة للشركات الكبرى التي تحمل مسميات دوائية، ومن ثم تحول المجتمع إلى مجتمع مخدرات ولصوصية ودعارة كما فصّل في جوانب عديدة من كتابه.

3- العمل: وتناول حياة بعض الشخصيات ومآسي الانتحار والهجرة وكوارث الرأسمالية وتجارب اشتراكية، والاعتقالات التعسفية في صفوف العمل، وكل ذلك من داخل المجتمع الأميركي.

4- السادية ويتناول مجموعة من القضايا النفسية المجتمعية كالجنس والقتل والجريمة.

5- الكراهية: الإسلام من خلال جاليته ليصل إلى الانهيار القيمي في أميركا، ومن ثم إلى مفهوم نهاية العالم، وهذا الفصل من الغنى الفكري والسياسي حضارياً في أميركا وأوروبا والعالم.

6- المقامرة ويغطي المقامرة كإدمان، ووجود الكازينوهات، وما تجلبه على المجتمع وأميركا تحديداً، ويربط كل ذلك بدور الساسة، خاصة ترامب وكبار الساسة والمالكين.

7- الحرية ويغطي مفهومات البؤس والتجارب الطبية وتآمر المؤسسات، والشركات ودورها، والأمراض والسجون.

ليختم الفصل السابع بالإمبراطورية الأميركية والنهاية، يتناول فيه مفهوم صعود وهبوط الإمبراطوريات، ويتساءل: ماذا بعد سقوط أميركا؟

والمؤلف يقتبس ليبين مفهوماته فيقول: «نحن في قبضة ما سماه كيركيفارد المرض حتى الموت تخدير الروح باليأس الذي يؤدي إلى الانحطاط الأخلاقي والجسدي، وقد ارتأى بأن المحكومين بالمجردات العقلانية وبمذهب فكري متحفظ هم محرومون مثل أولئك الذين يستسلمون لمذهب المتعة والشهرة للوصول إلى السلطة والعنف والجنس، إننا نحقق الخلاص عندما نقبل معوقات الجسد والروح وقيود كوننا بشراً، ومع ذلك، وبالرغم من هذه القيود فإننا نسعى لأن نعمل ما هو خير».

والرسالة التي يريد هيدجيز أن يقدمها هي رسالة أخلاقية بمجملها، وعليها بنى نهاية الإمبراطورية الأميركية، وذلك يظهر من خلال الفصول وعناوينها والطروحات التي أراد أن يقدمها، وهو ما جعلني أقدم بين يدي الكتاب بأن ما ورد فيه لا يتجاوز القراءة أو الاحتمال الذي سيحدث حتماً، ولكن الزمن غير محدد وغير معروف، لأن مجتمعاً كالمجتمع الأميركي يحمل في داخله القدرة على التحول والتجدد في كل لحظة تولد فيها نظرية ما.. وختام الكتاب هو الذي يحدد المقولات التي يريدها المؤلف «ليست المقاومة هي فقط محاربة قوى الظلام، إنها تهتم بأن تصبح كائناً بشرياً كاملاً. إنها تهتم بالتغلب على الاغتراب. إنها تهتم بجارنا. إنها تهتم بتكريم المقدسات. إنها تهتم بالكرامة، إنها تهتم بالتضحية. إنها تهتم بالشجاعة. إنها تهتم بالحرية. إنها تهتم بالقدرة على الحب. يجب أن تصبح المقاومة مهنتنا..

لو أمعنا النظر فإننا سنجد أننا أمام كلام جميل، لكنه عاطفي يقوله الأميركي والأوروبي والآسيوي والعربي، الأبيض والأسود، كل واحد يدّعي أن المقاومة التي يفهمها هي الأصل، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن لهذا الفهم العام أن يكون وراء انهيار إمبراطوريات؟! في ذلك كثير من المبالغات تشبه تلك التي قالها أحد مدعي الخبرة قبل الانتخابات الأميركية: إما أن يفوز ترامب أو أن يفوز ترامب، وفي حال عدم فوزه، فالحرب الأهلية قادمة، وسقوط أميركا وتقسيمها وشيكان..!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن