قضايا وآراء

إيران على أعتاب دور إقليمي كبير

| عبد المنعم علي عيسى

يصح توصيف حادثة الاستهداف الأميركي لمواقع فصيلين مقربين من إيران على الحدود السورية العراقية فجر يوم الإثنين 28 من شهر حزيران المنصرم على أنها نموذج ليس بجديد على طبيعة العلاقة القائمة بين البلدين، وهو أقرب لأن يسمى «سفارة» بالنار، يستعاض عنها كبديل لوجود السفراء الذين غابوا عن عاصمتي البلدين منذ انتصار الثورة الإسلامية في طهران شباط من العام 1979، وهي، أي تلك العلاقة، كانت غالباً ما ترسم في مسارها منحنى بيانياً يعلو ويهبط تبعاً لاحتياجات المرحلة التي تحكمها العديد من الظروف وكذا التوجهات الكبرى في كل من واشنطن وطهران، لنراه تارة يرسم لمسار يشير إلى اختيار الطرفين لوضعية «التخادم» المتبادل من دون أن يعني ذلك بالضرورة وجود تنسيق تفرضه هكذا حالات، ثم نراه يميل تارة أخرى إلى «التصادم» الذي غالباً ما يكون بسقوف منخفضة، وهو أقرب لأن يكون صندوق بريد يضع فيه كل طرف من الأطراف الرسائل التي يريد لها أن تصل إلى الطرف الآخر.
كثير من التفاصيل التي رافقت تلك الحادثة، كما عرضت لها العديد من التصريحات وتقارير وكالات الأنباء، تؤيد وجهة النظر سابقة الذكر التي تضع حادثة الاستهداف في سياق «السفارة» التي لا مقر لها، ومنها التوقيت الذي اختير لتنفيذ تلك الضربات، فوقت الفجر المختار الذي يفترض فيه سقوط عدد من الضحايا عند الحد الأدنى يشير بلا شك إلى أن واشنطن باتت محرجة إلى حد بعيد جراء القصف الصاروخي الذي أضحى روتينيا على مواقع أميركية في العراق، و«الهيبة» تفترض بالتأكيد حفظ ماء الوجه، ثم إن انفجار طائرة مسيرة في مطعم يقع عند أحد مداخل مدينة بغداد، وجل رواده من الجنود الأميركيين، منتصف شهر حزيران الماضي من دون أن يكتشفها نظام المراقبة الأميركي الأحدث عالمياً، كان قد وضع الهيبة كلها في الميزان، فالاختراق يندرج في خانة «التكنولوجيا» التي تعتبر واشنطن نفسها «الموطن الأصلي» لها، ومنها أيضاً، أي من تلك التفاصيل، ما ذكره مصدر عسكري عراقي لقناة RT في اليوم التالي عندما قال: «إن طائرات استطلاع كانت قد رصدت المنطقة التي جرى فيها القصف قبيل ساعتين من حدوث ذلك الفعل»، وهذا يعني من الناحية العسكرية أن واشنطن أرادت إرسال إشارة تحذير لكي يتم إخلاء المواقع تحسباً لوقوع عدد كبير من الضحايا، ومجمل الصورة المرتسمة من ذينك المؤشرين يقول إن واشنطن أرادت القيام برد بدافع الحرج، لكنه أيضاً من النوع الذي لا يستدعي رداً معاكساً يمكن له أن يدفع إلى مزيد من التصعيد، والأهم أنه من النوع غير المؤثر على ترتيب أوراق المتفاوضين في فيينا، والتي باتت، على الأرجح، مرتبة بعناية فيما ينقصها الاتفاق على «غلاف» سيحدد إلى درجة بعيدة لون ونكهة المضمون، هكذا ومن دون أن يضطر القارئ للدخول بين ثناياه إلا لمن أراد ذلك.
هذا السياق السابق يؤكد عزم واشنطن على التزام أقصى درجات الانضباط تجاه العلاقة مع إيران، كما يؤكد عزمها على إنجاز اتفاق معها بأكمام فضفاضة بدرجة أكبر من تلك التي شهدناها في تموز من العام 2015، على حين وسع «الأكمام» هنا سيعطي ولا شك دوراً إقليمياً بارزاً لطهران ممهوراً بتوقيع الدولة العظمى الأولى عالمياً، وهو ما رصده موقع «اكسيوس» الأميركي شديد الاهتمام بالإستراتيجيات التي يجري رسمها في دوائر صنع القرار الأميركي، فهو يقول في تقرير له نشره 18 حزيران الماضي نقلاً عن مصدر أميركي رفيع لم يسمه: «إن واشنطن تبدي رغبة في إنجاز الاتفاق النووي مع إيران قبل شهر آب المقبل»، والتاريخ الأخير الذي حدده المصدر يعني أن واشنطن معنية بإنجاز الاتفاق قبيل أن يمسك الرئيس المنتخب ابراهيم رئيسي بزمام السلطة في طهران، وهو أمر، كما يبدو تعول عليه الأولى بدرجة كبيرة، صحيح أن الخيارات الكبرى في دول تمتلك إيديولوجيا ثابتة لا تتغير كثيراً بتغير الرؤساء، ومن النادر لها أن تشهد انعطافة كبرى بحدوث مثل هكذا فعل، لكن الحسابات الأمي-ركية تقوم على أن الخيارات الكبرى إذا ما كانت غير قابلة للتغيير فإن الصغرى التي ترسمها العديد من التفاصيل يمكن لها أن تتغير بفعل انتقال عصا السلطة، وعند هذي الأخيرة، أي التفاصيل، قد تدخل «الطبعة» مرحلة تدقيق تطول وتطول مما لا يتسع الوقت الأميركي لها في مساره الرامي إلى ترسيخ شعار «عادت أميركا» الذي أطلقه جو بايدن بعد نحو شهر من وصوله إلى البيت الأبيض.
ما يثير الأعصاب الأميركية هو حالة البرود التي تمارسها طهران في أدائها التفاوضي المثير للإعجاب، فالأخيرة تظهر سلوكاً ليس مستعجلاً على سقوط «الثمرة» التي ستسقط حتماً، ولربما تمسك هي بالفرع الذي يربطها بالجذع لكي تحدد وقت السقوط، والفعل يقوم بالتأكيد على مؤشرات راسخة لا يدانيها شك في إمكان حدوث انقلاب فيها، فوزارة الدفاع الأميركية كانت قد ذكرت شهر نيسان الماضي أن وزير الدفاع لويد أوستن يجري مراجعة عالمية للوضع العسكري لبلاده، بما فيها التفكير في تقليص قواعدها العسكرية المنتشرة في المنطقة، والتفكير أيضاً في تكاليف، وفوائد، تأسيس الأسطول الخامس المزمع أن يكون مقره في البحرين، وفي نيسان الماضي أيضاً نشر السناتور الديمقراطي كريس ميرفي مقالاً على موقع «غلوبال ريسيرش»، كان قد ترجمه موقع البديل العراقي ونشره 30 نيسان، وفيه «نعوة» صريحة لـ «مبدأ كارتر» الذي أعلنه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر العام 1980 والذي اختصرته جملة قالها في خطابه السنوي عن حال الاتحاد لذاك العام قال فيها: «إن أي قوة خارجية تسعى للسيطرة على منطقة الخليج سيعتبر اعتداءً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة»، ثم أضاف: «وسيتم صد هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية بما في ذلك استخدام القوة العسكرية».
نعوة ميرفي لـ «مبدأ كارتر» الذي قال عنه إنه «أصبح من الماضي» ليس أمراً عادياً، إذ لطالما لعب الرجل في مرات عدة دور «المرآة» العاكسة لما يدور في أروقة الحزب الديمقراطي، وما قاله بالمطلق يرسم صورة واضحة لانقلاب أميركي تجاه الخليج العربي، يقابله انقلاب آخر، من نوع مختلف، على الضفة الإيرانية لذاك الخليج.
إيران تتحضر لدور إقليمي رسمت سياسة «الصبر الإستراتيجي» التي نجحت طهران في حياكة قماشتها ملامحه الأهم، على حين لا يزال ذلك الدور قيد التبلور أميركياً لوضع الزراكش التي تليق بتلك الحياكة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن