دائماً ما يطفو على السطحِ الصراع بين العقل والعاطفة. صراعٌ وإن كانت نهايتهُ في بعض الأحيان كارثية، لكن أسوأ ما فيهِ إننا نعيش خارج السلام الداخلي.
هذا الصراع يبدو لك عندما تمتشق قلمك لتكتب، تبحث في أزقة المعاناة وعشوائيات التعب، تسأل نفسك: ماذا ستكتب وسط هذا الضياع؟
تلطمكَ صرخات «فتاة الحسكة» البريئة وهي تناجي قتلتها بالتوقف، ماذا لو قررتُ أن أكتبَ عن المشاركين بالجريمة وهم يبعدون عنها مئات الكيلومترات؟ من الذي يتمسك بتشريعِ زيجاتِ القاصرات؟
هنا يأتيكَ من بينِ ثنايا الضياع جواب بسيط: لا تصغِ إلى عاطفتكَ فيما تكتب، حاوِل دائماً أن تضعَ العاطفة جانباً!
لكني كاتب، وهذه وظيفتي!
أنتَ لا تكتب رواية تريدُ من خلالِها أن تنقلَ مشاعرَ الشخصياتِ على الورق، عندها مطلوبٌ منكَ أن تبكي عند كتابتكَ لحوار البطل مع حبيبتهِ، هل ترى الأب الذي يقاتل على جبهاتِ شظف العيش؟ عليكَ أن تستنشقَ دخانَ سيجارتهِ حتى تتمكن من جعلِ الورق يحترق من تحت قلمك، احتراماً للخوف الذي يعتصره.
أنتَ لا تكتب مقالاً تريد من خلالهِ انتزاعَ محبةِ الناس، ولا ولاةِ أمرهم، أنتَ لستَ هنا ليرضى عنكَ من يظنون أن اللـه لم يهدِ سواهم، ولست هنا ليشيد بك من يرفعون رايةَ «أبو عبدو العلماني»، تخيل نفسكَ مثلاً فراس الزمان الهمذاني وقد قال في المقامة الشامية:
اشتهيت أكلَ السليقة وأنا أعبرُ بينَ المزة والحريقة، قلت في نفسي لماذا لا أشتري بفلسينِ أسدُّ بهما رمقي عساني اكتشف بطعمها معنى الحياة البريقة. غبار يتناثر وأصوات ضجيج تعلو، ما خطبهم؟ هل ماتَ شهبندر التجار أم يوزعون للراغبين دخول الجنةِ.. وثيقة؟
اقتربت من أحدهم وسألته ماذا يجري؟ قال إنها جمهرة تقيمها كبيرةُ الطباخين شفيقة، عساها تستمزج الآراء لتصل إلى الطبخةِ الرشيقة؟ لم أكترث لكل هذه البهرجات الفاشلة والوصفات المكررة، لكني ابتسمتُ في نفسي وقلت:
هل ترَى يا همذاني كيفَ يسعفنا التاريخ بإيصال رسائل النقدِ الرقيقة؟!
عاد ذاك الصراع بين العقل والعاطفة، بحثت عن ما يهدئ من روعي، لأكتشف قراراً لكبيرِ المشخصاتيين يشدد فيهِ على احترام الذوق العام بمنعِ التدخين وقيادة السيارة من دون حزامِ الأمان عندَ تصويرِ المشاهد، أجهشتُ بالبكاء حتى ابتلت لحيتي، امتطيتُ صهوةَ أبجري وعدتُ أدراجي، لماذا أتوهُ بين العقل والعاطفة ما دمنا نعيش ترفاً فكرياً بنسمَات السلم الرقيقة تحسدنا عليهِ القبائل المعادية والصديقة؟
أكرهُ التاريخ وأكره كل ما يبقينا في حفرهِ العميقة، ما أجملَ الواقع فهو أصدق، فتحتُ حاسوبي لأقرأ تصريحاً لمسؤولٍ كروي يقول فيه: «تأخرنا باختيار مدرب للمنتخب». هنا يبدو علي العودة إلى التاريخ القريب مهلاً، تأخير؟ أين سمعت هذا الكلام من قبل؟ نعم هناك لاعب قال بصراحة إننا في سورية دائماً ما نصل متأخرين، يومها جرى تخوينه وطرده، طيب ما الفرق هنا بين التصريحين؟
لا فرق، اكتشفت ببساطةٍ أن العاطفة والعقل هنا صراع هامشي أمام ما نعيشه من صراعات، اكتشفت ببساطة أن هناك من لا يزال يكرهُ كابوساً اسمهُ.. الحقيقة!