من دفتر الوطن

قنابل يوسف زيدان

| حسن م. يوسف

«العلم المستقر هو الجهل المستقر».
لا يمر يوم لا أفكر فيه بهذه المقولة منذ أن قرأتها في كتاب «المواقف»، للمتصوف محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفَّري، المولود في بلدة نِفَّر العراقية والمتوفى في القاهرة قبل 965 عاماً. فقد كنت ولا أزال أومن بعمق أن من يكف عن اكتساب العلم يدخل في الجهل. وهذه المقولة هي إعادة صياغة لقول سلفنا الصالح: «من تساوى يوماه فهو مغبون».
والحق أنني كنت ولا أزال أومن أن أوجب واجبات المثقف هو أن يقول المسكوت عنه في مجتمعه، وأن يمارس باستمرار نقد القيم السائدة، كي لا يقع المجتمع في مَوَات السكون الثقافي، فهوية المجتمع، كما هوية الفرد ينبغي أن تكون في مسار تطور دائم. والتطور الدائم يقتضي تعدد الأصوات. فهيمنة الرأي الواحد تأتي على رأس أسباب الركود، الذي قد يؤدي في بعض الحالات لانقراض المجتمع بكامله.
إنني من المتحمسين للمثقف النقدي الذي يخلخل البراهين ويزعزع التعميمات ويعمل على تجديد هواء الثقافة، لأن الثقافة كائن حي بحاجة لأن يتنفس وأن يطل من شرفة اليوم على آفاق المستقبل.
وعليه فأنا أرى أن المثقف يجب أن يكون ضمير مجتمعه برمَّته، بعيداً عن التحزبات والاصطفافات، وهو ما يراه الفيلسوف والروائي الفرنسي جوليان بيندا‏ (1867 – 1956) الذي اشتهر بمقالته «خيانة المثقفين». لكنني لا أتفق معه في دعوته للمثقف بـ «أن يكون محرِجاً ومناقضاً، بل حتى مكدِّراً للصفو العام».
وانطلاقاً من هذه النقطة سبق لي أن كتبت عن الاستنتاجات المفرقعة (المكدرة للصفو العام) التي بدأ يوسف زيدان بإطلاقها منذ نحو عقدين.
ففي نهاية عام 2015 قام يوسف زيدان بتفجير قنبلة تاريخية خطيرة بقوله: إن «المسجد الأقصى في مدينة القدس المحتلة، ليس هو المسجد الأقصى ذا القدسية الدينية الذي ذُكر في القرآن الكريم، والذي سرى الرسول «ص» إليه، وإن ذلك مجرد خرافات، والمسجد الأقصى المقصود، موجود «في الجعرانة على طريق مدينة الطائف في السعودية. «كما لو أنه يعفي المسلمين من الدفاع عن المسجد الأقصى الموجود في فلسطين!
وقبل أربعة أعوام أطلق يوسف زيدان كل أسلحته الثقيلة على قائد ورمز قد يكون الأنصع في تاريخنا هو محرر بيت المقدس صلاح الدين الأيوبي. ويبدو أن لعبة تحطيم الرموز قد راقت للكاتب يوسف زيدان فأصدر مؤخراً كتاباً بعنوان: «متاهات الوهم»، يقول فيه: إن طارق بن زياد البربري قتل الكثير من البربر باسم الإسلام قبل أن يتوجه إلى الأندلس، وإن طارق لم يقم بإحراق السفن بعد عبوره المضيق الذي سمي لاحقاً باسمه، لأن السفن لم تكن ملكاً له ولا للمسلمين، وإن الخطبة الشهيرة المنسوبة له، مزوَّرة، وإن موسى بن نُصير أنّب طارق بن زياد وبالغ في إهانته وزجّه مصفداً إلى ظلام السجن… إلخ.
صحيح أن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804) كان يعتقد أننا «حين نقوم بما يجب أن نقوم به أخلاقياً، فإننا غير مسؤولين عمّا يحدث بعد ذلك. « لكن هذا لا ينطبق على ما يقوم به الكاتب يوسف زيدان من تحطيم منهجي لرموز الأمة، والعوامل الموحدة لها، لأن ما يفعله لا يدخل في إطار الواجب الأخلاقي بأي حال. ولعل أفضل ما يمكن أن ننهي به هذا الموضوع الشائك هو ما يقوله الأكاديمي البارز والمثقف النقدي الكبير إدوارد سعيد: «يتعين على النقد أن يكون ناقداً لنفسه أيضاً، وأن يعي شروط حضوره، وعلى المثقف أن يختار متى يطلق نقده ومتى يؤجله».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن