ثقافة وفن

اللحظات التاريخية والصدق

| إسماعيل مروة

ذات يوم صار اليوم بعيداً، التقيت الأديب الكبير الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي لم يكن يأتي إلى دمشق في زيارة إلا ويخصص لي وقتاً أجلس فيه معه، سواء في فندق أمية، أم في فندق الشام، ويقول أنا في الفندق حسب الزيارة، فإن كنت مدعواً لأمر ما، غالباً ما يكون في فندق الشام، أما عندما تكون زيارتي خاصة فإنني تعودت منذ زمن بعيد على فندق أمية، وفي كل لقاء كان العجيلي الكبير يحمل بيده كتاباً كان قد كتب عليه ووقّعه مسبقاً، وهذا الكتاب من كتبه الجديدة صدوراً، أحياناً يكون إعادة طباعة مع التعديل، وغالباً ما يكون جديداً في طبعته الأولى وحين صدر كتابه «جيش الإنقاذ» عن إحدى الدور الراقية في حلب، جاءني بنسخة منه، وأول مرة يبدأ العجيلي بتقليب صفحاته معي، ويشرح لي بعض القضايا والصور الموجودة في الكتاب، ولمّا رأى استغرابي لوجود هذه الصور النادرة في كتابه، ضحك وقال: الفضل يعود لأمرين، أولهما ولعي بالتصوير، والتصوير عندي هواية أقوم من خلالها بتوثيق جميع لحظاتي، أما الثاني فيعود لبورجوازيتي، فأنا تمكنت من امتلاك آلة تصوير في وقت كان من النادر أن يملك أحدنا آلة متطورة كالتي امتلكتها، وأضاف قد تستغرب اصطحابي لها في أثناء تطوعي بجيش الإنقاذ، فهل ذهبت متطوعاً أم في نزهة؟
ذهبت متطوعاً مقاتلاً، وربما تملكني إحساس بأنني سأعود، ترافق مع فضول الكاتب الذي يكتب للصحافة كثيراً، لذلك كانت آلة التصوير رفيقة رحلتي وتطوعي ومن خلالها استطعت التقاط اللحظات النادرة جداً، بل الأكثر من نادرة، وأشار إلى الصور، فهذه صورة لأديب الشيشكلي، وهذه صورة لأكرم الحوراني، وأخرى وأخرى، وربما حصلنا على صور نادرة للمشاركين في جيش الإنقاذ من كتاب العجيلي هذا ومن أرشيفه الذي نشر بعضه في الصحافة في ذلك الوقت.
لم يكن العجيلي صاحب حاجة، فقد كان مكتفياً بما لديه ولديه الكثير، ولم يكن صاحب ميل، فهو ليس منتمياً لأي حزب سياسي مهما كان نوعه، يسارياً أو يمينياً، علمانياً أو دينياً، بل كان صاحب فكر حر، وانتماء وطني يغلب عليه وعلى سلوكه، فهو يتعامل مع الرئيس شكري القوتلي وله عليه ملاحظات، ويتعامل مع الحوراني والشيشكلي وله عليهما ملاحظات قد تكون أكبر بكثير من ملاحظاته على سواهما، لكنه يوثقهما قولاً وصورة في كتبه لمرحلة عاشها بكل طزاجتها وأحداثها ومشكلاتها، وربما رأى القارئ الصورة الحميمة له في فلسطين مع الحوراني فظنه لصيقاً به، وظن الميل المشترك بينهما، لكن العجيلي ابن مرحلة مختلفة، وابن ثقافة منفتحة، هو في هذا الجانب يذكر للحوراني تطوعه في جيش الإنقاذ، وهو نائب مثله في البرلمان، أخذ إجازة من الراحة والحياة البرلمانية ليكون جندياً يحمل بارودة في جبال الجليل، ولكنه في كتابه (ذكريات أيام السياسة) يذكر بالتفصيل حقيقة ما جرى قبل الذهاب إلى فلسطين، وخاصة عندما نشر الحوراني مذكراته في مكتبة مدبولي- القاهرة.
قال العجيلي في كتبه ولي في جلسات: حسناً فعل أكرم الحوراني في نشر مذكراته، فهو صاحب تاريخ يستحق الكتابة، ويتابع، لكنني كنت أتمنى لو كان دقيقاً، ولم يبالغ، ولم يخترع بعض القضايا والقصص التي تصب في مصلحته! وحين سألته عنها، قال: أظن أن هذه المذكرات فيها أشياء كثيرة غير حقيقية، وليس من حقي أن أشير إليها، لأنني لم أكن فيها، وخاصة في نشاطه السياسي والحزبي، وأضاف: قد تقول كيف أحكم بالمبالغة وأنا لم أعش هذه اللحظات، ولا أشير إليها؟ أقول: هناك مجموعة من الحوادث المشتركة التي كنا فيها معاً في الحياة البرلمانية، وفي جيش الإنقاذ، وحين جاء الحوراني على ذكرها لم تكن صادقة، ولا أدري هل هو نسي التفاصيل أم أراد تغييرها حسب هواه، ومن خلالها أحكم على المبالغات والغاية في هذه السيرة، وهذا لا يقلل من أهميتها ومن رصدها لمرحلة غنية من مراحل الحياة السياسية السورية الغنية بالأحداث والأحزاب والحياة البرلمانية.
طلبت منه مثالاً واحداً، فقال: أذكر لك مثالاً واحداً ذكرته في كتابي «ذكريات أيام السياسة» ويتعلق بتطوعي والحوراني، وكنا نائبين في البرلمان، ضمن جيش الإنقاذ وبسبب وجودنا في البرلمان، كان لابد من استشارة الرئيس القوتلي، وأخذ الإذن منه بأن نغادر ونكون في إجازة برلمانية، وبالفعل زرنا الرئيس الذي حاول إقناعنا بأننا في البرلمان نؤدي دورنا التطوعي، وبأنه لا حاجة لوجودنا ضمن المتطوعين على الأرض، لكنه أمام إصرارنا وافق، وودعنا إلى الباب، وقدّم لنا ظرفاً مالياً ليساعدنا في رحلتنا، لكنني اعتذرت عنه وبشدة، وبالنيابة عن الحوراني، لأنني لن أسجل أنني قبضت ثمن تطوعي، وحين خرجنا عاتبني الحوراني وقال: قد نحتاجه، وكان من الممكن أن نوزعه على المتطوعين الذين يحتاجونه، لكنني بقيت على موقفي، والحمد لله، لم نأخذ المال من الرئيس.. وهذه الحادثة على ما فيها من نبل الرئيس وكرمه وحرصه، وما فيها من التزامنا السياسي والأدبي في الاستئذان كان جديراً بالحوراني أن يذكرها كما هي، لكنه عندما ذكرها، ذكرها في كتابه بطريقة مغايرة تنال من الرئيس وموقفه، وهو ليس بحاجة لمثل هذا الأمر، وهذه الحادثة كافية عندي لأخذ الحيطة عند قراءة مذكرات الحوراني.
بقلمه وكاميرته التقط العجيلي بحدسه وصدقه وانتمائه أهم مفاصل الحياة السياسية السورية بعد الاستقلال، فهل من عودة للقراءة والتقويم للوصول إلى فهم أعمق قد نتفق عليه، وقد نختلف؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن