قضايا وآراء

بين السياسة والعسكر

| منذر عيد

بين صرير أقلام السياسة، وطول نفس الدبلوماسية، وابتسامة رجالاتها، وأزيز رصاص العسكر، وخرائطهم الإستراتيجية، وتجهم قادتها، بون شاسع، لجهة المباشرة في الحديث والتصويب على الهدف في الأخيرة، والكياسة والمكر في إيصال الرسالة والوصول إلى المبتغى في الأولى.. إلا أنه ورغم الخلاف في الشكل فإن الهدف واحد عندما يتخندقان في جبهة حرب واحدة، حال ما يجري في سورية، ومواجهتها عدواناً وإرهاباً تشظى على جميع الصعد، وبجميع الأشكال، وفتح العديد من المعارك، الميدانية والسياسية والاقتصادية والإعلامية، وفي الوقت الذي لا يوجد شيء عبثي في السياسة، وما تخفيه المنابر قد تفضحه تلميحات الدبلوماسيين، حين تحمل بعض المفردات معان ودلالات غير تلك التي تعنيها في اللغة والقواميس، وتصبح الكلمات (ربما وأعتقد وأتمنى وقريباً ونأمل) معاني غير تلك التي يقولها عامة المتحدثين، (في ذات الوقت) تأتي أفعال العسكر مباشرة، حيث لا يوجد لحديث الرصاص أي لغة أخرى غير تلك التي تعنيها.
للوهلة الأولى بدا تمرير القرار 2585 في مجلس الأمن الدولي حول تمديد ما يسمى آلية إيصال المساعدة الإنسانية إلى سورية عبر الحدود بمثابة تراجع بالموقف الروسي في الظاهر، وهو ما حاول أعداء سورية تصويره إعلامياً على أنه هزيمة لحقت بالدبلوماسية الروسية، وانصياع للضغط الأميركي- الغربي، ولأن الحقيقة في السياسة تشبه إلى حد ما انعكاس الصورة على الماء فلا يمكن رؤية تلك الصورة بشكل واضح إلا مع ركود المياه، كان الحال ذاته في اتضاح حقيقة تمرير القرار في مجلس الأمن لاحقاً، وهو ما بدا جلياً في تصريحات وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد في العاشر من الشهر الحالي، حينما اعتبر أن اعتماد القرار 2585 بشأن تمديد دخول المساعدات الإنسانية عبر الحدود بصيغته الحالية يعد إنجازاً، لأنه تضمن كل الجوانب التي كانت الدول الغربية ترفض تناولها، وبأن القرار يعني محاصرة المسلحين والإرهابيين حينما شدّد في جميع فقراته على ضرورة تقديم كل المساعدات الممكنة لسورية وخاصة من الداخل السوري، الأمر الذي أكدته أيضاً وزارة الخارجية الروسية بقولها: «إن القرار يؤكد العزم على بذل الجهود لتحسين إرساليات المساعدة الإنسانية إلى مختلف مناطق الجمهورية العربية السورية من دمشق».
وفي الحديث عن عدم عبثية أي كلام يصدر عن الدبلوماسية، واختلاف معاني الكلمات والمواقف ظاهرها عن باطنها دبلوماسياً، حملت تصريحات المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف، في التاسع من الشهر الجاري، الكثير من الرسائل المبطنة إلى الأكراد في سورية الذين يعولون على التعاون مع الولايات المتحدة التي تتواجد قواتها في مناطقهم، حينما قال: «إن الولايات المتحدة يمكن أن تتخذ قراراً بسحب قواتها من سورية بصورة مفاجئة كما فعلوا في أفغانستان، وهذا الأمر يعد إشارة واضحة للأكراد، الذين نبقى على تواصل وثيق معهم ونحملهم على تنظيم الحوار مع دمشق، إنها إشارة واضحة على أن هذا الحوار ليس ضرورياً فحسب وإنما يجب إنهاء هذا الحوار بالتوصل إلى حل وسط والخروج باتفاقات محددة مع الطرف السوري»، تصريحات ليست لمجرد الحديث بل هي، تنبيه، ودق لناقوس الحيطة والحذر على ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد» الانفصالية التنبه إليه، قبل فوات الأوان، وضرورة تحولهم من دور وظيفي وأداة بيد المحتل الأميركي، إلى شركاء في الوطن، تحت راية الجمهورية العربية السورية.
في الجانب الآخر لـ«عملة» وعوامل القوة السورية، يحضر بقوة دور العسكر، وقدرة الجيش العربي السوري على إحداث تحولات كبيرة، وصناعة أخرى جديدة تمكن الدولة السورية من فرض سيادتها وكلمتها على الأرض السورية، وتمكينها من عنصر الاستباق في إفشال جميع المخططات الخارجية، وهذا ما لا يمكن نكرانه إذا ما نظرنا إلى مخرجات عشر سنوات من الحرب الإرهابية، وهنا لا يمكن تجاهل وإنكار الدور المتنامي للمقاومة الشعبية في مناطق تواجد الاحتلال الأميركي، وميليشيات «قسد» الانفصالية، حيث فرضت في الأيام الأخيرة معادلة جديدة من خلال تزايد عدد هجماتها واستهدافها لقواعد الاحتلال الأميركي في ريفي الحسكة ودير الزور.
من المؤكد أن استهداف قواعد الاحتلال الأميركي غير الشرعية في سورية، ليس مجرد «رصاصة طائشة»، بل بداية لنمو بذور حديث السيد الرئيس بشار الأسد لوكالة «سبوتنيك» الروسية في العام الماضي حينما قال: «إن القضاء على الإرهابيين في سورية هو الأولوية الأولى بالنسبة لنا، بعد ذلك، إذا لم يغادر الأميركيون والأتراك فإن الأمر الطبيعي الذي ينبغي أن يحدث هو المقاومة الشعبية، هذه هي الوسيلة الوحيدة، فهم لن يغادروا عن طريق النقاش، أو عن طريق القانون الدولي طالما أنه غير موجود، وبالتالي، ليس لديك أي وسيلة أخرى غير المقاومة».
خلاف الشكل بين الدبلوماسية والعسكر، لا يعني خلاف المضمون، بل في سورية يُكمل كل منهما الآخر، إلى حد لا يجد أحدهما ضيراً في لعب دور الآخر، حين تتحول كلمة السياسي إلى رصاصة، وتلين رصاصة بندقية العسكر في التكتيك خدمة للهدف الإستراتيجي الأسمى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن