قضايا وآراء

أميركا قلقة ولا تهتدي للبوس مناسب لـ«الحلبة»

| عبدالمنعم علي عيسى

على الرغم من أن الانهيار السوفييتي الحاصل أواخر العام 1991 كان مسعى أميركياً واضحاً لعبت فيه مبادرة «الدفاع الإستراتيجية» المسماة «حرب النجوم» التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغن العام 1983، دوراً كبيراً، جنباً إلى جنب مع عوامل أخرى داخلية، في ذلك الانهيار، من حيث إنها فرضت سباق تسلح على موسكو وجدت هذي الأخيرة نفسها فيه أمام خيارين، فكان أن اختارت الأهون من بينهما، وهو التنازل عن دور الدولة العظمى الشريكة في إدارة العالم عبر نظام القطبية الثنائي الذي ساد بين 1945 – 1989، الأمر الذي بدأت تباشيره تلوح في الأفق منذ العام 1987 الذي شهد القمة التي جمعت بين الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف ونظيره الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغن، التي قدم فيها الأول للأخير تنازلات كانت لها تداعياتها الكبرى على الداخل السوفييتي، والتي أخذت تتسارع وصولاً إلى ذلك الانهيار المدوي المذكور أعلاه.
نقول على الرغم من ذلك فإن الولايات المتحدة بدت وكأنها فوجئت بالحدث، أو كأنها لم تتحضر له كما يجب، ظهر ذلك عبر «النشوة» التي عمت دوائر السياسة، وكذا الاقتصاد والفكر والثقافة في الولايات المتحدة، ولعل أبرز مظاهرها كان في إطلاق فرنسيس فوكوياما لنظرية «نهاية التاريخ» التي عنت أن انتصار النموذج «الغربي الحر» على نظيره «الاشتراكي» هو نهائي، ولسوف يكرس الأول نظاماً أبدياً للعالم الذي لن يستسيغ بعد الآن أي نظام آخر، وفي الاختبار الأول لهذا النظام كانت حرب الخليج الثانية العام 1991 التي حصلت بعد غزو العراق للكويت صيف العام السابق لهذا العام الأخير، وكانت تلك الحرب «صرخة» أولى عملت من خلالها واشنطن على ترسيخ مفهوم انفرادها بالسيطرة العالمية، وكذا على إثبات تفوقها كمن يريد القول إن ما من قوة أخرى في العالم تستحق لقب القوة الثانية أو الثالثة، وعلى الجميع التنافس فقط على المراتب التي تلي الرابعة أو الخامسة.
كانت أحداث 11 أيلول 2001 في نيويورك قد فرضت نوعاً من «الفرملة» للجموح الأميركي الذي كان قد أتم عقده الأول آنذاك، وهي من حيث النتيجة كانت قد وضعت النموذج أمام تحديات جديدة اكتشف من خلالها استحالة المضي في إطلاق المزيد من الحريات، بل مضى نحو تشديد الرقابة على الحريات الشخصية عبر قانون «مكافحة الإرهاب» الذي استنه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن بعيد تلك الأحداث، والمؤكد هو أن القائم بالفعل، أي أحداث أيلول السابقة الذكر بنيويورك، كان قد فرض، من حيث يدري أو لا يدري، على صانع القرار الأميركي مبدأ «تعويم» الأمن بكل الحمولات المجتمعية التي يقتضيها، وجعله أولوية لا تسبقها أي أولوية أخرى، وهذا بالتأكيد كان يمثل نخراً من النوع الذي إذا ما اتسع فسيفضي إلى مفاعيل شديدة السلبية على مسار يتخذ من الحريات أيقونة له، حتى باتت الشعلة التي يحملها «تمثال الحرية» القابع على شواطئ نيويورك، وهي تشير إلى ما وراء الأطلسي بأن «أرسلوا إلي كل ما لديكم من مظلومين ومضطهدين فأرضي تتسع لكل هؤلاء»، رمزاً للإيديولوجيا، وكذا السياسة والثقافة، الأميركية.
ما بعد أيلول الأسود الأميركي الذي أصاب «الهيبة» الأميركية في الصميم، راحت الأرقام التي تسجلها الصين في ملاعب الاقتصاد والتكنولوجيا وكذا أكداس الرساميل، مع غياب لافت للتسجيل في ميادين الفكر والثقافة، تثير قلقاً متنامياً في واشنطن، ومع هذا الأخير راحت طرق المعالجة تتأرجح بين وجوب اختيار هذه الإيديولوجيا أو تلك لمواجهة النهوض الصيني الذي بدا كأنه قادراً على تحطيم كل المعوقات التي تعترض طريقه بما فيها تداعيات «كورونا» التي لم تستطع، بكل جبروتها، فرض حالة من الركود على الاقتصاد الصيني.
خرجت المحاولات الأميركية لاحتواء الصين إلى العلن منذ بداية عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي شهد إطلاق بكين لمشروع «الحزام والطريق» العام 2011، والمشروع يرمي، من بين ما يرمي إليه، إلى ربط أربع مليارات من البشر بـ«حبال» صينية، لكن أهم ما فيه، أي في ذلك المشروع، هو أن بكين ظهرت كمن يحاول تقديم بديل حضاري للعالم، ورؤية مختلفة تؤكد أن النموذج الغربي الديمقراطي ليس هو الوحيد القادر على بناء القوة والثروة، وهذا فرض على الولايات المتحدة تحدياً ارتأت أنه الأهم بين ما يهدد هيمنتها العالمية، ولذا فقد راحت كل الإيديولوجيات والسياسات تبنى في سياق تلك المواجهة التي ستحدد موقع أميركا العالمي، ومعها أسس الصراع في هذا القرن.
ما يعنينا هنا هو الإيديولوجيات التي تمثل اللبوس الذي يضم تحته السياسات وكذا تراسيم الاقتصاد والثقافة، وفي ذاك يمكن لحظ أن واشنطن راحت تبحث عن تجديد مفهوم الغرب الذي ظهر مؤخراً بقوة عند الرئيس الأميركي جو بايدن، والبداية كانت بتوقيع هذا الأخير مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في 10 حزيران الماضي لـ«ميثاق أطلسي جديد» كنسخة معدلة لذاك الموقع العام 1941، ثم مضى بايدن في مؤتمر الناتو والسبع الكبار، المنعقدين في الشهر ذاته، نحو إعطاء مفهوم جديد للغرب يتعدى في مضامينه «البعد الجغرافي» أي التجاور على ضفتي الأطلسي، وكذا يتعدى البعد الذي اتخذه إبان الحرب الباردة كجبهة مناهضة للشيوعية.
هذا التوجه ليس بجديد فهو ظهر عند الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي حاول تجديد مفهوم الغرب عبر محاولة وضع الغرب «المسيحي الأبيض» في مواجهة العالم الآخر «غير الأبيض».
قد يكون المفهوم الذي طرحه بايدن أكثر شمولية، وهو بعيد عن العرقية والإثنية، لكن المهم في الموضوع يكمن في خطورة تغير المفاهيم خلال مدد قصيرة، وهذا يشير إلى حال من القلق قصوى يتوقع لها أن تتنامى وتتنامى أكثر، ففي الصراعات الإستراتيجية الكبرى الطويلة الأمد نادراً ما تحدث تبدلات كهذه خلال فترة قصيرة، وهي، أي تلك الإستراتيجيات، تبنى في دوائر الدولة العميقة التي ترسم لها منهجية مديدة قلما تطرأ عليها تبدلات كبرى إن لم يقابلها نظيرة لها على ضفاف الجبهات المستهدفة، وهذا يعني باختصار أن الولايات المتحدة اختارت، والوقت إذ يضيق ويضغط، مبدأ التجريب الذي يشير إلى حيرة في اختيار لبوس مناسب ترتديه على حلبة الصراع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن