قضايا وآراء

النفاق السياسي

| د. حسام شعيب

لا يختلف اثنان على تعريفه أو وصفه، وهو ينطوي على مبالغات لغوية وذهنية فاضحة، يكون لها وقع صاخب على الآذان، رغم أن الجذر اللغوي لكلمة «نفاق» أقل بكثير من أن يمنع هذا الضجيج، نظراً لخسة المنافق ونزوعه إلى الهروب والتزلف والانزلاق والمراوغة، بما يجعل من الطبيعي ألا يمتلك صوتاً عالياً، وصل إلى حد أن يطلق عليه البعض اسم «التطبيل» وهي صفة سيئة للغاية، وهي من الظواهر السلبية المنتشرة عبر تاريخ مجتمعاتنا العربية، ومن الآفات السياسية والاجتماعية والدينية الخطيرة التي تتفشى وتتفاقم في مجتمعاتنا.
وبالنظر إلى هذه الآفة الخطيرة التي تفتك بقيم المجتمع ومبادئه وحضارته وتُضعف من إنتاجيته، وما تتركه من آثار ضارة مع الأسف زادت صفة «النفاق» بشكل واسع جداً وسادت بكل الحالات والمستويات وخاصة الاجتماعية والدينية ولعل أكثرها فضحاً السياسية،
فالمنافق هو أول المنقلبين حيث له وجهان: ظاهر وباطن، ويُسخر هذه الازدواجية في عالم السياسة للإيقاع بمن يستهدفه عبر التدليس والغش غير آبه بالمصلحة العامة أو حتى متحيز على المستوى العميق والطبيعي لمصلحة الوطن
ويصنع كلام المنافقين تلالاً من المبالغات السياسية التي تؤدي إلى فقدان الإصلاحات معناها الحقيقي بفعل ابتذالها على ألسنة العموم، فتتملكهم حيالها مشاعر السخرية والشك والتأفف والصدود فلا يرون عبارات أو مصطلحات يطلقها المنافقون إلا أنها عبارات جوفاء، تزيد من جعل الواقع أكثر قبحاً وجهامة.
والمبالغات المصاحبة للنفاق الذاعق المتجاوز للأخلاق والأعراف، أو المناقض التام للواقع، تؤدي إلى عكس ما يريده القائد أو المسؤول أو المتزلف إليه، والذروة في هذا ربما تكون ما جاء على لسان شعراء السلاطين، وإذا كان بعض الشعراء من منشدي «قصائد المديح» وبعض الوعاظ والفقهاء والأدباء من صانعي «الآداب السلطانية» كانوا هم الذين ينتجون النفاق السياسي في تاريخ العرب الوسيط، وسبقهم بعض الكهنة وكتبة المسرح والمتفلسفة في تاريخ أمم أخرى، فإن منتجي النفاق في زماننا موزعون على كتاب وصحفيين ومذيعي تلفزيون وإذاعة وسياسيين وفنانيين ورياضيين وتجار وأصحاب أموال وأعمال ويصل الأمر إلى بعض العوام، ممن يرجون من نفاقهم نفعاً أو يتقون به شراً.
ويغرق خطاب المنافقين في مجازات سياسية، كثير منها عابر ومستهلك ومكرر فما يقوله المنافق التاريخي المسؤول اليوم، سبق أن قاله المسؤول بالأمس، الذي ما إن ترك المسؤولية، حتى هجاه أو تنصل منه، بعد أن تحين اللحظة المناسبة للقفز من سفينته الغارقة، وتزداد مبالغات المنافقين في اللحظات السياسية الفارقة أو المراحل الحاسمة والظروف الاستثنائية المعقدة التي يكون فيها المجتمع غير متزن، ومهيأ بصورة غير عادية لتقبل ما يبثه المنافقون من دعايات كاذبة ومقولات تضليل مريبة وإشاعات لتزييف الحقائق، ومنها لحظة تولي المسؤول، أو إن كان الصراع بينه وبين غيره على المسؤولية قد بلغ مداه، أو في وقت الانتخابات، التي يمتد فيها النفاق السياسي من مداهنة المسؤول إلى محاولة استرضاء الرأي العام بمجاملته على حساب الحقيقة الواقعية، وإذكاء الخلافات وتوسيع دوائر الفساد.
إن سيادة النفاق والمجاملة على حساب الحقيقة وقلبها أو تغييرها، سواء كانت حقائق تتعلق بالتاريخ ودروسه أم تتعلق بالحاضر، وما ينتج عنها من كذب وتضليل وما يترتب عليها من خداع، تعتبر من أخطر الآفات التي تقود إلى أبشع صور الفساد المدمر للثقافة والسياسة بكل مستوياتها.
إن الباحثين والكتاب والأدباء والصحفيين والمستشارين مسؤوليتهم في هذا الشأن بالغة في الدفاع عن الحقيقة والموضوعية العلمية، التي تتجلى فيما يكتبون أو ما يسجلون أو ينقلون من آراء أو حقائق، إنهم يتحملون وزر كذبهم إن حادوا عن نقل الحقائق كما هي بكل تجرد ومسؤولية وموضوعية بعيدة عن الهوى والنفاق.
إن المنافقين الوصوليين من أصحاب المواقع والمراكز وحملة الشهادات العليا لا يرجى منهم نفع ولا فائدة، فالقيم التي تحكم سلوكياتهم المريضة لا تخلق منهم إدارياً ناجحاً أو منتمياً لوطن، ولا تخلق منهم مفكراً عظيماً أو مبدعاً فذاً وإن انطلقوا في اعتلاء المراتب وتأمين مصالحهم لوقت طويل فهم سرعان ما يتلاشون في فضاء الحقيقة الوطنية والعلم الحق والثقافة الرصينة، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح ولا تدوم غير الحقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن