قضايا وآراء

الرئيس أقسم لنقسم نحن أيضاً

| عبد المنعم علي عيسى

يمكن الجزم بأن خطاب الرئيس بشار الأسد الذي تلا أداه للقسم الدستوري يوم السبت 17 تموز الجاري كان هو الأهم مما ألقاه خلال سني الأزمة العشر، ولربما كان ذلك طبيعياً قياساً للتحولات الجارية في الأزمة السورية منذ عام على الأقل، وهي تسارعت بشكل ملحوظ منذ مطلع العام الجاري.
بتوصيف موجز يمكن القول إن الخطاب جاء سياسياً شاملاً مفعماً بروح الانتماء للوطن وللعروبة والسلام، على حين برزت بين مفاصله محطات عرضت للآلام التي كرستها الحرب التي كان رهان الأعداء فيها منذ البداية «على خوفنا من الإرهاب ويأسنا من التحرير»، ليتحول الرهان فيما بعد، أي راهنا، على «تحويل المواطن السوري إلى مرتزق يبيع وطنه، وقيمه، مقابل حفنة من الدولارات أو لقمة العيش مغمسة بالذل»، لتبرز بعيد تلك الصورة نفحة الانتصار السوري فالنتائج «أتت معاكسة للقواعد التي افترضوها وساروا بناء عليها»، الأمر الذي أمكن لحظه من خلال التحولات الحاصلة على الضفتين الإقليمية والدولية بعيد سقوط الرهان الأخير، فما حصل «شكل هزة لا يمكن تجاهلها، لأن حساباتهم في كل مفصل تأتي خاطئة»، والسوريون الذين كانوا «داخل وطنهم يزدادون تحدياً وصلابة».
بين الثنايا، برز توجهان مهمّاً، الأول هو الحديث عن استقرار المجتمع، وهو مصطلح واسع له تشعبات عدة وكذا موجبات تستحضر طرق ملفات متشابكة، الذي قال عنه الرئيس الأسد بأنه «أولى المسلمات، وكل ما يمس أمنه وأمانه مرفوض بشكل مطلق، وأي مجتمع لا يكرس القيم، ويحترمها، لا يمكن أن يكون مجتمعاً مستقراً ومزدهراً»، والثاني هو ترك الباب موارباً لعودة «من أخطؤوا» إلى حضن الوطن الكبير الذي لا بديل منه حتى بعد أن «تحولوا إلى رصيد للخارج، يقدمون أنفسهم له أوقات الحاجة»، وكلا المنحنيين يصبّ في محاولة إعادة اللحمة للنسيج المجتمعي الذي تعرض لتشققات كانت بفعل عوامل خارجية بالدرجة الأولى، والمؤكد هو أن النجاح الذي سنصيبه في مسارنا اللاحق على امتداد المرحلة المقبلة، سيتوقف، وإلى درجة بعيدة، على تسارع الخطوات التي تقود نحو استعادة تلك «اللحمة» من جديد، مع الإشارة إلى أن فعلاً كهذا لا يبدو أمراً صعباً قياساً للمؤشرات التي تراكمت مؤخراً، والتي أظهرتها محطات عديدة كان الأبرز منها محطة 26 أيار وما تلاها، وهي، أي تلك المحطات، كانت قد أفضت إلى تشخيص سريري مفاده أن الحروق التي أصابت الجسد السوري هي في مجملها من الدرجة الأولى، أو الثانية، على أبعد تقدير، والتعافي منها لن يحتاج إلى فترة مديدة.
في مقلب آخر، طغت على السياقات التي سار عليها الخطاب، نبرة محفزة، وهي تعتد بشعب «لم تهن عزيمته»، وعبر ذاك الفعل استطاع أن يثبت أن «الشعوب لا تهون عزيمتها في الدفاع عن حقوقها مهما أعد المستعمرون من عدة»، فالسوريون أثبتوا أنهم «شعب لا يدجن»، وأن «الشعوب العريقة تحيا في الواقع الحي، لا في الواقع الافتراضي، ولا تسقط في فخ الاستسلام المجاني»، والمؤكد هو أن تلك العزيمة التي ازدادت صلابة كلما ارتفعت التحديات لدرجة أعلى، جنباً إلى جنب العراقة التي تستمد مخزونها الحضاري من نبع يغوص في بواطن سحيقة من الزمن، هي التي قادت إلى سقوط رهانات الخارج التي كانت تتلون عبر التحولات التي كانت مقودة بفعلين اثنين، أولهما وقائع الميدان، وثانيهما انعكاسات تلك الوقائع على التركيبة السورية، والسقوط كان بأيدي السوريين الذين «أطلقوا رصاصة الرحمة على المشاريع التي استهدفت الوطن».
بقي أن نشير إلى أمر لافت يمكن تلمسه في قول الرئيس الأسد: «يعمل بعض العملاء على تركيز طروحات للوصول إلى دستور يضع سورية تحت رحمة الأجنبي»، وهذه مكاشفة مفاجئة ذات دلالات عدة في شتى الاتجاهات، لما يدور في أروقة «اللجنة الدستورية».
كتكثيف، يمكن القول إن الرئيس الأسد أراد القول: إن إرهاب العالم كله، ومعه كل المخططات التي كانت تديرها غرف عمليات عملاقة مسنودة بوسائل إعلام غاية في الإدهاش، ومعززة بأكداس المال الذي لا ينضب، كل ذلك لم ينجح في أن يؤدي إلى حرف «البوصلة» الدمشقية التي حافظت على سمتها في أعتى الظروف، فنحن «نربح عندما نفهم في العمق أن أقرب تلك القضايا إلينا هي قضية فلسطين».
في المنعطفات التاريخية الحادة، مما مرت به البلاد على امتداد السنوات العشر الماضية، يحدث أن تتغير مواقف شرائح معينة في المجتمع، وهي غالباً ما تكون قلقة لاعتبارات عدة، بعضه له علاقة بطبيعة التكوين وبالظروف المحيطة وكذا بدرجة الوعي الذي يتحدد بدرجة كبيرة عبر العاملين السابقين، ولربما كانت المهمة الأولى الآن تكمن في دفع تلك الشرائح نحو التخلي عن قلقها، مما يمهد الطريق لعودتها من جديد لتكون ذراعاً قوياً في بناء وطن هو مفخرة لنا جميعاً، فتقسم معنا على ما أقسم عليه الرئيس الأسد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن