دائماً ما أُحب الاستشهادَ بالحكمةِ التي تقول: إن كانَت المهارة بأن تُصيب هدفاً لا يصيبهُ أحد، فإن العبقرية أن تصيبَ هدفاً لا يراه أحد.
هكذا انتظرَ السوريون والعالم خطاب الرئيس بشار الأسد خلال تأديتهِ القسم لولايةٍ دستوريةٍ جديدة، ولعل الظروف الحالية أكسبت هذه الكلمة المزيد من الأهمية، الأوضاع على المستوى الداخلي هي الأسوأ منذ بداية هذه الحرب اللعينة على سورية، والاختلاف بينه وبين خطاب القسم في العام 2014 وما سبقها من خطابات، أن الوضع الأمني والعسكري وحتى السياسي لم يكن بأفضل حال فيما الوضع الاقتصادي كان جيداً، اليوم يبدو الحال معكوساً، فالأوضاع العسكرية تبدو أكثر من جيدة والوضع الاقتصادي في الحضيض، ربما هذه الفكرة دفعت الكثير للاعتقاد أن التركيز في الخطاب سيكون على المستوى الداخلي، لكن من قال أساساً إن الوضع سياسياً كانَ أم اقتصادياً ليسَ مرتبطاً بالخارج؟
في الوقت ذاته فإن الأوضاع على المستوى الإقليمي وحتى الدولي قد لا تبدو مختلفة عن الوضع في سورية، يكفي أن نذكر أن لبنان والعراق على حافة الانهيار، حتى تونس التي يتغنى البعض بديمقراطيتها باتت أزقتها ملاذاً لمن لا يجدون مكاناً للاستشفاء والقائمة تطول.
لم تخيِّب الكلمة التوقعات إذ بدا واضحاً أن التركيزَ فيها كان على كل ما يتعلق بما هو سوري بمرورٍ بسيط على تشعباته الخارجية، تركيزٌ لا يمكننا حصرَ تشعباته المهمة لكننا ببساطة نركّز فيهِ على فكرتين أساسيتين:
الوطن مجموعة مسلمات
هذا العنوان العريض ربما هو الرسالة الأشمَل والأوسع التي أرادَ الخطاب إيصالها، لأنها تهم كل من يحمل الجنسية العربية السورية بمعزل عن تموضعه السياسي، فمن يتسلح بقرارِ الشعب والثقة التي منحهُ إياها يحقُّ له ببساطةٍ أن يُعيدَ تذكيرَ البعض بالمفاهيم والمسلَّمات المؤسِّسة والجامعة للوطن.
إن بناء الأوطان لا يأتي عبر العصا السحرية، لأن الوطن بالأساس هو حالة تراكمٍ حضاري لشعبٍ ما ببقعةٍ جغرافية محددة، تتفاعل مع من حولها من مجتمعات، قد تتشارك معها الثوابت وقد تختلف بطريقةٍ تحفظُ استقلاليتها وخصوصيتها. لكي نصلَ إلى المرحلةِ التي نبني فيها المسلمة الأكبر علينا أساساً أن نتفق على المسلمات المكوِّنة لهذا الوطن على أرضِ الوطن، فلا يمكن لأبناء الوطن مثلاً أن يختلفوا على مسلمة «وحدة الأرض»، لايمكن أن يتجاهلوا مسلمة الاحترام لكل ما هو مختلف من عقيدة أو قومية أو فكر، بناء الوطن يكون بالتفاعل بين هذهِ المكونات لا بالصراع بينها.
في سياق متصل فإن أهمية ما طرحة الرئيس بشار الأسد أنه يستند إلى فكرةِ المراجعة الشاملة المستندة إلى الشفافية، كيفَ وصلنا إلى هنا؟ بعيداً عن المساحيق التجميلية التي تجعل البعض يتسابق للهروب من تحمّل المسؤولية، فالفكر الديني مثلاً لم يقل لليسار المتصهين اذهب وقاتل مع الإرهابيينَ في خندقٍ واحد، باتجاهٍ مختلف فإن نجاح شرذمة من المتأسلمين بإقناع شبابٍ بعمرِ الورود أن يحملوا السلاح ويقاتلوا ضد جيشِ وطنهم، في وقتٍ كانوا لا يتركون باباً يتيح لهم الهروب من الخدمة الإلزامية إلا وطرقوه، هو أمرٌ يجعلنا نتساءل بموضوعية:
كيف فشلت مؤسسات تعليمية ودينية وحزبية برفعِ الحالة الوطنية لديهم ونجح المتطرفون باستمالتهم ورفع الحالة المذهبية لديهم؟
هذه المراجعة قبل أن تبدأ بتحديد السلبيات يجب أن تعيدَ أرشفة الإيجابيات للبناء عليها وعدم الاكتفاء بالنظر إلى الجزء الفارغ من الكوب، فنظير كل شابٍ غُرّرَ بهِ هناك آلاف الشبان الذين صمدوا في وجه هذا الفكر، ونظير كل عائلةٍ باعَت وطنها لتتحول إلى سكينٍ في ظهرهِ، هناكَ آلاف العائلات التي رفعت شعار «نشوي الفولاذ ونأكلهُ لكن لن نركع أبداً»، والأهم نظير من يدعونَ بأنهم «معارضة سياسية» لم يتركوا باباً للخيانة إلا وطرقوه قد نجد ملايين المحبين لوطنهم غير راضين عن الكثير من التفاصيل السياسية والحكومية، لكنهم أبوا أن يكونوا أبواقاً لإرهابي أو ورقة بيد المستعمرين الجدد.
هذه المراجعات يجب ألا يكون وقوفنا معها بالكلامِ فقط، لأن إصلاح الخلل قد يتطلب الكثير من التضحيات ولو وصلنا إلى تعديلاتٍ دستورية تتيح المزيد من الانفتاح السياسي والتساوي بين المواطنين بالحقوق والواجبات، وإن كنا متفقين على مسلَّمة الحقوق على البعض أن يستوعب فكرةَ أن مقابل الحقوق هناكَ واجبات، وبمثالٍ بسيط:
لايمكن للمواطن أن يطالب بالخدمات ومكافحة الفساد مثلاً وفي الوقت ذاته يعترض على قانون دفع الضرائب، هنا لا نتحدث عن الآليات التنفيذية للقوانين، قد يكون هناك خلل، لكننا نتحدث عن فكرة الحقوق والواجبات. في الوقت ذاته لا يمكن لمسؤول أن يجعل من الحصار شماعة للفشل، بينما رأس الهرم في السلطةِ التنفيذية يرفع شعاراً لا ريبَ فيهِ: «الحصار أكبر فرصة للتطوير»، مشكلة البعض أنه استسلم لسلبيات الحصار ولم يسعَ للتفوق عليه عبرَ الاعتماد على الذات.
الإرادة عنوانٌ جامع
قيلَ سابقاً: أن أتقدم ببطء خيرٌ من أن أتراجع، تبدو هذه العبارة بسيطة لكنها في الوقت ذاته تحتوي على ثابتةٍ أساسية هيَ دوام وجود الإرادة، أياً كان حجمها وفي أي مجالٍ كانت هي خير من انعدامها لأن انعدامها تراجع، والتراجع نصف هزيمة.
بدا حديث الرئيس الأسد عن الإرادة الجامعة متعدد الجوانب، هل نبدأ مثلاً من الإرادة التي منعتنا من الاستسلام؟ كيف لا وهو بدأ خطابهُ أساساً بعبارة: أحييكم تحيةَ الوطن الراسخ في زمن السقوط، هو أدرى بمعنى السقوط الذي كان مخططاً لهذا الوطن وما حوله!
هذه الإرادة الجامعة ليست مجردَ شعارٍ هي بالأساس واقعٌ فرضهُ الصراع الدولي، فليسَ عن عبثٍ تحدث الرئيس الأسد عن العالم المتصارع الذي لا مكان فيهِ للإنسانية، بل أتبعهُ بالتأكيدِ على دوامِ هذا الصراع مادام ليس هناك توازن أو منتصر.
فكرة التوازن مرتبطة بتلاقي الإرادات وبصناعةِ التحالفات داخلياً وخارجياً:
داخلياً، تبني السلطة الحاكمة سياساتها انطلاقاً من رؤية الشعب، وبدا دقيقاً توصيفَ الرئيس الأسد للحروب الحديثة بأنها تسعى لهزيمةِ الإنسان، والوقت ذاته لا يمكن لسلطة أو دولة أن تتخذ خيارات المواجهة والدفاع عن الحقوق مالم تستند إلى إرادة شعبية تدعم هذا القرار، هنا قد نحتاج إلى قدرٍ عال من المسؤولية لتوصيف الإرادة التي تقف بوجهِ تحول الإنسان إلى عدو لوطنهِ، لدرجة باتت فيها كلمة مقاومة مُخجلة وتعبير الصمود أضحوكة لدى البعض، لكن من هؤلاء وماذا يمثلون؟
أنت لا تستطيع أن تبني تحالفاً دونما ثوابت، ولا تستطيع أن تكون جزءاً من منظومة وأنت ضعيف، نجح العدو بالتغلغل حتى في ثنايا ثوابتك الوطنية الجامعة، نجح بتحويل العروبة في أذهان البعض إلى بعبعٍ سياسي يريد إلغاء الآخر، هل يمر خطاب لا يأتي فيهِ الرئيس الأسد على أهمية التمييز بين العروبة السياسية والعروبة كانتماء، بينما لا يزال البعض يرمي العروبة بحجارة السطحية في الفهم!
خارجياً، فإن هذه الإرادة هي ثابتة أكدها في خطاب العام 2014 لتتجسد بالأمس، فمن يقارن ما تم إنجازه خلال سنواتٍ سبع كانت فيهِ داعش وإرهابيو جيش الإسلام وجبهة النصرة على أطراف كل من حمص ودمشق وحلب باليوم، يدرك تماماً بأن التقدم ولو ببطء في المعارك المصيرية هو خيرٌ من انتصارات متسارعة أو تراجع قاتل، هذا التحول المتسلح بالإرادة رسَّخ فرضية أن سورية جزء من منظومة وليست نظاماً، وأن سورية تحترم أصدقاءها وتقدِّرهم لكن القرار في النهاية صناعة سورية بامتياز.
في الخلاصة، ربما هناك من انتظر خطاباً يسهبُ أكثر فأكثر في توصيف الحالة المعيشية، وهناك من انتظر خطةَ عملٍ لتحريرِ ما تبقى من أراض، وجهة النظر من العودة للساحة العربية والكثير الكثير من الملفات العالقة، لكنه ببساطة لم يكن خطاباً لإصابة أهداف نراها جميعاً، هو ببساطة خطاب لإصابة ما يراه هو ليس كرئيسٍ منتخب فحسب، بل كرجلٍ هز عرش العالم يضع الخطوط العريضة للمرحلة القادمة، لم يأتِ فيها على ذكر أي من الدول العربية، على حين كان يضحك وهو يضع أميركا وتركيا والإرهابيين في ابتسامةٍ واحدة.