قضايا وآراء

دمشق نحو استعادة الدور

| عبد المنعم علي عيسى

ورد في خطاب الرئيس بشار الأسد الذي ألقاه في أعقاب أدائه لليمين الدستورية يوم 17 تموز الجاري عبارة مفادها أن دمشق ستدعم المقاومة الشعبية في مناطق الجزيرة السورية سواء أكان خيارها السلمية أم اعتماد العمل المسلح.
يصح اعتبار ذلك التوجه الجديد، الذي بدا طاغياً في الآونة الأخيرة في غرف صناعة القرار السياسي السوري، بأنه علامة بارزة على إصرار دمشقي على الذهاب نحو استعادة الدور الذي تقلص جزئياً بعد حادثة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري شباط 2005 بسبب الحصار لاعتبارات معروفة، قبيل أن يضعف بشكل كبير مع دخول البلاد في أزمنة طاحنة، ربيع العام 2011، لعبت فيها عوامل خارجية، وكذا داخلية، دوراً من النوع المحطم لكل أنواع التماسك الداخلي اللازم لنهوض المجتمعات وانطلاقتها نحو أداء دورها الطبيعي في محيطيها القريب فالأبعد.
هذا المنحى الذي كان ولا يزال، يغوص في الذات الجماعية السورية فيعطي صانع القرار الأفكار والأدوات للسير به قدما نحو تحقيق الأهداف، يلحظ جملة من التحولات الحاصلة مؤخراً على المستويين الداخلي والخارجي بشقيه الإقليمي والدولي، فالمشهد السوري المرتسم عشية 26 أيار وما تلاه كان كافياً للتأكيد على أن الشارع السوري نازع في أغلبيته نحو طي الأزمة، وطمر مخلفاتها، تأسيساً للنهوض السوري من جديد، وما جرى كان أشبه بتفويض شعبي يخول القيادة القيام بأي عمل تراه لازماً لتمام هذا الفعل الأخير، وفي الثاني، أي الخارجي، تكاثفت أيضاً عدة مؤشرات توحي بأن ثمة متغيرات آخذة بالتبلور، وهي تمضي في طريقها لتراكم الكثير في الجعبة السورية ما يمكن الاستثمار فيه وصولاً إلى الهدف المنشود.
أول التراكمات كان في القرار 2585 الصادر عن مجلس الأمن يوم 9 تموز الجاري والمتضمن تمديد عبور المساعدات الإنسانية لمدة ستة أشهر سوف تتمدد تلقائياً لستة أشهر أخرى، عبر معبر واحد هو «باب الهوى» على الحدود التركية، الأمر الذي نظرت إليه دمشق بواقعية فرضت عليها تلمس الآثار الإيجابية التي قد تنجم عنه لاحقاً، فالمندوب الروسي في الأمم المتحدة فاسيلي نيينيزيا كان قد أجاب، في أعقاب التصويت على القرار، رداً على سؤال فيما إذا كانت بلاده قد حصلت على وعود أميركية بتخفيف العقوبات المفروضة على سورية بـ«نعم، نحن نتحدث عن هذا الأمر»، أما السفير الروسي لدى الولايات المتحدة فقد ذهب يوم 13 تموز إلى أبعد من ذلك حين قال «نعتقد أن هذا القرار، ويقصد القرار 2585، الخاص بالمساعدات سيسهم في تحقيق تسوية سياسية في هذه الجمهورية العربية (سورية) في أسرع وقت ممكن، وفي استقرار الوضع في الشرق الأوسط بشكل عام»، وهو تصريح مهم يحمل من الخفايا أكثر بكثير مما يمكن تلمسه عبر التحليل الجامد لمفرداته.
ولعل أكثر ما يدعم هذه النظرة الأخيرة هو الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي بدأ شهر أيار الماضي ومن المقدر له أن ينتهي شهر أيلول المقبل، والفعل يشكل من حيث النتيجة حدثا ضخما ستكون له تداعياته على الوجود الأميركي في كل من سورية والعراق، صحيح أن جولة الحوار الإستراتيجي الرابعة التي انطلقت في واشنطن يوم الجمعة الماضية برئاسة وزيري خارجية العراق والولايات المتحدة، لن تفضي، وفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال»، إلى أكثر من تغيير لمهمة القوات الأميركية لتتحول من «قتالية» إلى «استشارية» من دون تحديد موعد زمني للانسحاب الأميركي من العراق، إلا أن ذلك مرتبط بطبيعة المفاوضات الجارية في فيينا للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، والتي أعلنت طهران عن إرجائها لحين تسلم الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي لمهامه شهر آب المقبل، والمؤكد هو أن كثيراً من المعطيات سوف تتغير إذا توصل البلدان إلى توافق حول «الزخارف» المحيطة بالصورة التي جرى التوافق على ألوانها، وعلى اللون الذي يجب أن يكون طاغيا فيها فيحدد النظرة إليها، والمؤكد هو أن الجولة الخامسة من الحوار الإستراتيجي العراقي الأميركي التي يفترض حصولها في أعقاب العودة لذلك الاتفاق، سوف تحمل بين ثناياها أشياء تبتعد كثيراً عن البيان الذي سيصدر عن الطرفين الإثنين 26 تموز الجاري والذي كشفت الصحيفة الأميركية سابقة الذكر عن مضمونه.
من المهم هنا لإيضاح الصورة العودة إلى تصريح أدلى به الرئيس الأميركي جو بايدن في أعقاب لقائه نظيره الروسي فلاديمير بوتين في جنيف 16 حزيران الماضي، وفي حينها قال: «سألني (بوتين) عن أفغانستان، قال إنه يأمل في أن نتمكن من الحفاظ على بعض السلام والأمن، وقلت هذا له علاقة كبيرة بكم، وأشار إلى أنه مستعد للمساعدة في أفغانستان وإيران، في المقابل قلنا نريد القيام بالمساعدة فيما يتعلق بجلب بعض الاستقرار والأمن الاقتصادي أو الأمن المادي لشعبي سورية وليبيا»، هنا من اللافت ورود كلمة «بعض» التي سبقت الوعد الأميركي للمساعدة بتأمين الاستقرار والأمن المادي والاقتصادي في سورية، ما يوحي بأن التوافق كان جزئياً، لكن حتى عبر هذه الصفة الأخيرة فإن من المؤكد أن ثمة مقايضة حصلت، وهي تقوم على مساعدة موسكو لواشنطن في أفغانستان مقابل مساعدة الأخيرة للأولى في سورية.
ثمة «نيزك» كبير راكمته الجعبة السورية مؤخراً، تمثل بزيارة وزير الخارجية الصيني وانغ بي إلى دمشق التي التقى فيها الرئيس الأسد بعيد أدائه للقسم الدستوري، والزيارة التي قيل فيها الكثير، وبغض النظر عما يمكن أن تحمله من تداعيات لاحقة، فإنها تمثل ورقة رابحة بيدي دمشق، تعزز من موقعها تجاه حلفائها، وتقوي من شوكتها في مواجهة الخصوم، وهي في الآن ذاته تمنحها توسعة لمروحة الخيارات التي تهدف من خلالها إلى استعادة وحدة أراضيها تمهيداً للقفز نحو استعادة الدور الذي آن الأوان ليعود كل منهما للآخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن