قضايا وآراء

عصر الرقمنة وحضارته الجديدة

| الدكتور قحطان السيوفي

هل وصلت البشرية إلى حقبة صعود حضارة مختلفة وجديدة، أي عصر الرقمنة، بحيث تكون التقنيات الرقمية هي المكون الرئيس، وسبباً مباشراً للتبدل العميق فكرياً وثقافياً، وبالتالي تطلق عصراً جديداً غير مسبوق تصبح فيه المعلومات الرقمية عصب كل شيء ومكونه الأساسي، وتتحكم في كلً ما يحصل؟
التكنولوجيا في سبيلها لتصبح من الحروب التجارية الجديدة. ففي خضم سباق الهيمنة على تكنولوجيات المستقبل، أدت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين إلى حظر استيراد وتصدير تكنولوجيا شبكات الجيل الخامس، وأشباه المواصلات، والتطبيقيات الأمنية القائمة على البيانات.
في عصر الرقمنة، الخدمات الجديدة المبنية على البيانات؛ كالذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس التالية، والإنترنت، والحاسوب الكمي، أفسحت المجال لمحركات نمو جديدة تبشر بتحويل أنشطة برمتها ورفع الإنتاجية. وقد تسارع هذا الاتجاه العام نحو مزيد من الرقمنة والترابط الشبكي في العالم بعد انتشار جائحة كوفيد – 19.
الاقتصاد الرقمي يعني الاقتصاد الذي يعتمد بشكلٍ رئيسٍّ على تقنيات الحوسبة الرقمية، ويُطلق عليه أحياناً اقتصاد الإنترنت أو اقتصاد الويب.
الاقتصاد الرقمي الجديد هو اقتصاد مبنيٌّ على نظام يحركه وينظمه المعرفة وانتشار المعلومة والسيطرة عليها، ويرتكز في تطبيقه على أبعادٍ متعددة لعل من أبرزها الانتشار الواسع والسريع للشبكة العنكبوتية التي تتيح للناس ولرجال الأعمال استكشاف العالم وإجراء عملياتٍ تجاريةٍ معقدةٍ ومتعددةٍ، في الوقت نفسه الاقتصاد المتصل بالشبكة يتمكن من الوصول بسلاسة ويسر إلى كل أنحاء العالم لجمع المعلومات وصنع القرارات وتعزيز الكفاءة الاقتصادية. كما أنه يسمح كذلك للسارقين والمخربين والجواسيس بمواصلة أعمال السلب أو الغش أو التلاعب أو التدمير. فالرقمنة والترابط عجلا انتشار المعرفة وفي الوقت نفسه أثارا مخاوف أمنية جديدة، من أبرز خصائص وسمات الاقتصاد الرقمي الانتشار الكبير لحجم البيانات إضافة إلى الأمن الخاص بالمعلومات أو ما يعرف بـ«السيبراني» الذي سيصبح أكثر أهمية للحفاظ على هذه البيانات آمنة.
التحول إلى الاقتصاد الرقمي ينطوي على تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية فريدة ومتنوعة تتطلب وضع قواعد واضحة للعمل، بالمقابل أسهم إدخال الإنترنت في تسهيل تفشي الجريمة الإلكترونية عبر الحدود، وجهود التعاون على مواجهة الجريمة الإلكترونية لاقت عقبات من تعارض المصالح بين المشاركين، واعتبارات الأمن الوطني، والفروق بين النظم القضائية والجنائية.
يحتاج المستخدمون إلى حمايتهم من جرائم الفضاء الإلكتروني إلى موارد كبيرة لمنع اختراق البيانات، إلا أن هناك حاجة إلى عمل المزيد بسبب تكرار هذه الخروقات «كسرقة بيانات بطاقات الائتمان من ملايين المستهلكين بالمتاجر الكبيرة». وينبغي أن تكون قوانين المسؤولية أكثر صرامة لتعويض الخسائر الضخمة التي تكبدها ضحايا سرقة البيانات الشخصية.
من ناحية أخرى؛ الصين تخطط لإصدار أول عملة سيادية رقمية، وقد حذر مؤسس شركة فيسبوك مارك زوكربيرغ، من أن جهود بكين، التي تبذلها في الرقمنة، قد يجعلها تتجاوز التمويل الأميركي بشكل كبير.
بموجب نظام المدفوعات الرقمية، سيكون من الممكن للحكومة الصينية تتبع المعاملات النقدية، التي قال المسؤولون إنها ستساعد على مكافحة غسل الأموال، وتمويل الأعمال الإرهابية.
إذا اعتمدت كثير من الدول العملات الرقمية، فإن هذا قد يقلل من تعرض الصين للمؤسسات المالية الأميركية، ما يجعل البلاد أقل عرضة للعقوبات.
التعاون الدولي بشأن المسائل الرقمية يتطلب السعي للوصول إلى إجماع الآراء حول المبادئ العامة والمؤسسات المشتركة لحل المشكلات المطروحة، والمساعدة على وضع إطار واضح المسار ومفتوح للتجارة الدولية.
ومن الاقتراحات المحددة الأخرى إنشاء مجلس للاستقرار الرقمي، على غرار مجلس الاستقرار المالي، لوضع المعايير والقواعد التنظيمية والسياسات المشتركة، وتبادل المعلومات، ويمكن أن يساعد ذلك على حماية الاستقرار المالي من الهجمات الإلكترونية والعمل لوضع ميثاق للحقوق التكنولوجية، وإعداد الإحصاءات الموحدة للاقتصاد الرقمي.
ما مستقبل المال في العصر الرقمي؟ كان هذا موضوع ندوة في معهد «بيترسون للاقتصاد الدولي» ضمن الاجتماعات السنوية المشتركة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن.
هذه الفكرة الجديدة أجبرت صناع السياسة على التفكير بجدية بأن المال مهم للغاية بحيث لا يمكن تركه للقطاع الخاص وحده. في هذا السياق، تقدم العملة المشفرة وحدات جديدة للحساب ومخازن للقيمة ووسائل الدفع. وبالتالي، توفر بنية جديدة لإنشاء واستخدام الأموال.
شبكة الإنترنت هي البنية الأساسية لمسار العولمة اليوم، ينظر العالم إلى «قطع» الإنترنت في أي بلد كأنه إيقاف الأوكسجين والكهرباء والماء عن الناس، هو أيضاً مجال خطير للإرهاب وتجنيد عناصره ونشر أفكاره المتطرفة والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر والجرائم الأخلاقية.
عصر الرقمنة وحضارته أصبح المؤثر الأهم على البشر بسلبياته وإيجابياته. التقنية الرقمية سحبت البساط من تحت أقدام قطاع التجزئة عن طريق التجارة الإلكترونية، وهي التي تزلزل القطاع المصرفي بالعملات الرقمية، وتدمر القطاع الإعلامي التقليدي بمنصات عديدة ومختلفة.
قال مؤسس شركة «تسلا» ألون ماسك: الكل يتوقع قدوم حقبة «التوحش الرقمي»، وما ستؤول إليه «الرقمنة» في المستقبل سيكون مرتبطاً بالتطور في عالم الخوارزميات وعلوم أخرى كالفيزياء والإلكترونيات كل ذلك ستكون غايته تشكيل «المواطن الرقمي» وبناء «المواطنة الرقمية»، في عصر الرقمنة تلوح في الأفق نذر صراع تكنولوجي متواصل، تكتنفه مخاطر تمزقٌ عالمي، مع ما يصاحبه من تداعيات مناوئة، الأمر سيقتضي مواصلة بذل الجهود وإعادة بناء الثقة باتجاه زيادة وتفعيل التعاون الدولي.
العالم يمر في مرحلة بناء مفاهيم جديدة تلائم التغيرات التقنية الكبرى الحاصلة، ومن المتوقع تأسيس قيم وقواعد جديدة ومختلفة تماماً على المستويين الفردي والجماعي.
عصر الرقمنة والحضارة الجديدة سطع نورها وعلى الأفراد والدول الذين لا يزالون يقيمون خارج هذا العصر العمل بكل الإمكانات للحاق بقطار عصر الرقمنة مع مراعاة فارق التوقيت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن