من دفتر الوطن

عاصمة الرفق

| حسن م. يوسف

أحسب أن الميزة الوحيدة في المصيبة هي أنها تعاكس الطبيعة، فهي لا تولد صغيرة وتكبر مثل كل شيء في هذا العالم، بل تولد كبيرة ثم تصغر. غير أننا، نحن أبناء سورية، لم نعد نجد عزاء في هذه الحقيقة رغم إدراكنا لها جيداً، فما إن تصغر مصيبة في نظرنا حتى تقرعنا الحياة بمصيبة أخرى أكبر منها وأدهى وأمر.
تعلم أيها القارئ العزيز أنني قطعت على نفسي العهد التالي منذ بداية الحرب التي تشنها الفاشية العالمية وأدواتها الإقليمية والمحلية على بلدنا: «حزني وأوجاعي لي، وما في روحي من ضوء أهديه لك». لذا لن أكاشفك بهمومي وآلامي، بل أود أن ألفت نظرك إلى جانب من سلوكك يؤذيك ويؤذيني. فقد لاحظت مؤخراً، يا ابن بلدي الحبيب، أنك تزداد خشونة، يوماً بعد يوم، في تعاملك مع إخوتك وجيرانك من أبناء وطنك السوريين، لذا اسمح لي أن أذكرك بأن بلاد الشام كانت عاصمة الرفق في الدنيا برمتها، فقد كانت هناك أوقاف لا تحصر أنواعها لكثرتها، منها وقف العاجزين عن الحج وأوقاف تجهيز البنات وفك الأسارى ورعاية الأيتام ومداواة المرضى… وقد جاء في كتاب «من روائع حضارتنا» أنه كان في دمشق «وقف للقطط تأكل فيه وتنام»، وكان المرج الأخضر (الأرض التي صارت موقعاً لمعرض دمشق الدولي منذ سنة 1954) وقفاً للحيوانات والخيول المسنّة العاجزة التي تركها أصحابها لعدم إمكانية الانتفاع بها، فكانت تُترَك لترعى في المرج حتى تموت. « وقد جاء في «ذكريات» الطنطاوي: «أنشأ الدمشقيون وقفاً للكلاب الشاردة المريضة، يداويها ويؤويها، كان في حيّ العمارة، ويسمّونه «محكمة الكلاب».
ولعل أهم من وثَّق حياة دمشق كعاصمة للرفق هو ابن مدينة طنجة المغربية محمد بن عبد اللـه بن محمد اللواتي، المعروف بابن بطوطة، (1304 – 1377م) والملقب ـأمير الرحالين المسلمين، الذي غادر مسقط رأسه طنجة بقصد زيارة بيت اللـه الحرام «وسِنّي يومئذ اثنتان وعشرون سنة» أي في عام 1326م. لكن الحال انتهى به إلى «… ترحال وراء ترحال… في ربوع بلدان امتدت من المحيط الأطلسي غرباً إلى بحر الصين شرقاً» وبعد تسعة وعشرين عاماً من الترحال عاد إلى المغرب، فكلفه سلطانها بأن يملي مشاهداته ورواياته على الوزير الأديب محمد بن جزِّي الكلبي، فكان له ما أراد، وأطلق على مذكرات الرحلة التي أملاها ابن بطوطة على الوزير: «تحفة النظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار».
وقد أخذت دمشق بلبِّ ابن بطوطة، فأسهب في وصف ناسها وجوامعها ومدارسها ودورها وطبيعتها وأوقافها، فأطال المكوث فيها وحصل على ثلاث عشرة إجازة من علمائها. ومن ألطف وأعجب الأوقاف التي رآها ابن بطوطة في دمشق وقف «الأواني» أو «الأطباق المكسورة».
يقول ابن بطوطة: «مررتُ يوماً ببعض أزقة دمشق فرأيتُ مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصّيني، وهم يسمونها الصحن، فتكسرت، واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم: اجمع شقفَها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعَها وذهبَ الرجل معه إليه فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال، فإن سيد الغلام لا بدّ له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره، وهو أيضاً ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبراً للقلوب، جزى اللـه خيراً من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا».
صحيح أننا نعيش في زمن صعبٍ عضتنا فيه الحرب بأنيابها، وقام الفاسدون من مواطنينا، بسرقة لقمة عيالنا، لكن صعوبة ظروفنا لا تبرر لأي منا فظاظة سلوكه وقسوة قلبه، فهي تتناقض مع تعاليم رسولنا العربي صلى اللـه عليه وسلم، الداعية للرفق، إذ قال: «إن اللـه رفيق يحب الرفق في الأمر كله». وقال في موضع آخر: «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير». وقد رأى الشاعر بشار بن برد أن الرفق يساعد الإنسان على تذليل الصعاب: «فاستعن بالرفق إن رمت صعباً.. ربما يسهل بالرفق صعب».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن