صواريخ المقاومة والجنوب الملتهب.. إرهاصات الاتفاق النووي أم شرارة حربٍ جديدة؟
| فراس عزيز ديب
عادَ لبنان إلى الواجهةِ من جديد، صواريخ باتجاه فلسطينَ المحتلة ردّاً على صواريخَ إسرائيلية باتجاه لبنان، هذه المعادلة ليست جديدة والحديث عما يسميه البعض «معادلات ردعٍ جديدة» وربطها بما يجري في الخليج العربي من استهدافٍ غامض للسفن والناقلات هي مغالطة، لأن معادلة الردع هذهِ تكرّست منذ نهاية عدوان 2006 على لبنان وصمود المقاومة اللبنانية بفضلِ دعم سورية جيشاً وشعباً.
فرضَ توقيت هذه المناوشات نفسه بقوة تحديداً وإن الشرقَ بكامله باتَ ملتهباً، وإن كانت تداعيات أي مواجهة في السابق انحصرت بدولِ المقاومة التي قرنت القول بالفعل وتمتلك حدوداً مباشرة مع فلسطين المحتلة، إلا أن تداعيات مواجهة كهذه اليوم تبدو عابرة للحدود البعيدة، على هذا الأساس فإن ما يجري يمكننا تفسيرهُ وفق سيناريو من اثنين لا أكثر:
السيناريو الأول هو الحديث عن فكرةِ أن ما يجري من مناوشاتٍ ما هي إلا مخاضَ إنجاز الاتفاق النووي بين إيران والغرب، وبمعنى آخر هناك نوع من الاستثمار الإيراني بمناوشات كهذه لمحاولة استعراض القوة وفرض الشروط على الطاولة وتذكير الطرف الآخر بأن إيران يمكنها الضرب بأي مكان.
هذا السيناريو يبدو ضعيف الحجة عند من يروِّج له، حتى لو كان البعض من المروجين ينسبون أنفسهم إلى الجانب المقاوم، على العكس هناك من يروج عن جهل لهذهِ الفكرة بهدف «الإساءة لإيران» لكنه بالنهاية يقدم لها خدمة كبيرة ويقدمها كمتحكم يدير كل شيء، هل فعلياً أن إيران بحاجة لمناوشات كهذه لتذكِّر العدو بقدرات المقاومة الصاروخية التي هي بالأساس كابوسهُ الذي لا ينتهي؟
قبل أمس كتب رئيس الوزراء السابق سعد الحريري تغريدة أعادنا بها إلى الفكرة ذاتها عندما تحدث عن «جعل الجنوب ساحة لتصفية الحسابات»، تبدو التغريدة تكراراً مملاً لهذه الاتهامات كأن من هم في الجنوب ليسوا لبنانيين، لكن أسوأ ما في التغريدة هو اجترار لمفهوم «المغامرات غير المحسوبة»، هذا التوصيف أطلق يومها على عمليةِ المقاومة اللبنانية التي أدت إلى أسر الجنود الصهاينة، فهل إنها مجردَ مصادفة أم إن الاستعانة بسيناريو 2006 هو الملاذ الأخير؟!
هذا السؤال يفتح لنا الباب إلى السيناريو الثاني أي سيناريو الحرب.
ينطلق هذا السيناريو من فرضيةِ أن الفرصة اليوم مؤاتية لتصفيةِ الحساب مع المقاومة في لبنان، لكن بشرط ألا تكون إسرائيل وحيدة في هذه المعركة، بل قد يكون الكيان الصهيوني آخر من يظهر في المواجهة، وبصورة أوضح تدويل هذه الحرب بذرائعَ مختلفة أهمها حماية المدنيين وحماية لبنان.
على هذا الأساس يبدو كأن الوضع هو استعادة كاملة لعشية حرب تموز 2006، يومها وصلت درجة الاحتقان السياسي في لبنان، هذا إن اتفقنا أساساً أن في لبنان حياة سياسية، إلى درجاتٍ غير مسبوقة، أما التهديدات ضد سورية فكانت علنية، أحد «الأمعات» طالبَ الولايات المتحدة بإرسال سيارات مفخخة إلى قلب العاصمة دمشق، ونذكر أنه هناك في «14 آذار» من كان ينام ويستيقظ ويحلم بأن سيئ الذكر ديتلف ميليس سيعود من دمشق بطائرة تضم جلَّ القيادة السورية وهم معتقلون بتهمة قتل رفيق الحريري.
صمدَت سورية يومها وصمَدت المقاومة اللبنانية وأنجزا وحدَهما انتصاراً ما زلنا حتى الآن وحدنا من يدفع ثمن تداعياته، هناك من يحاول اجترار هذا السيناريو بالاستناد إلى فرضيةٍ مهمة وهي أن عوامل الصمود في عام 2006 لم تعد متوافرة في كل من سورية ولبنان، شعبياً ورسمياً، فالحصار الاقتصادي والمالي خلقا حالةَ احتقانٍ شعبي في كلا البلدين تجاه غياب أدنى مقومات الحياة، يعتقد هؤلاء بأن الفرصة لن تتكرر، ولو عدنا بشريط الأحداث لوجدنا السيناريو يتكرر:
اغتيال رفيق الحريري يقابلهُ اليوم انفجار ميناء بيروت، شهود الزور في قضيةِ اغتيال الحريري قابلته الحملة الإعلامية المستمرة لتحميلِ سورية والمقاومة مسؤوليةَ الانفجار وتخزين المواد المتفجرة، وشهود الزور الذين رؤوا الشهيد آصف شوكت يعطي المتفجرات للإرهابي أبو عدس هم ذاتهم الذين يدعون أنهم نقلوا شحنات «الأمونيا» إلى الجنوب، هل يعتقد البعض بأن الغرب يدفع لتمويل حملات كهذه بهدف ملء فراغ البث على القنوات التي يمولها؟!
هناك ربما من أخطأ في التعاطي مع التفاصيل الصغيرة التي كانت بداية، بنَى عليها العدو الكثير، «كأس الشاي» في مرجعيون لم تكن إلا بداية لتعديل مزاج الجيش اللبناني والمزاج الشعبي، ألم تصبح المقاومة تهمة وفي العلن؟ تجاهل محاكمة شهود الزور عندما أُسقطت حكومة سعد الحريري 2011 بهدف محاكمتهم وما جرَّه هذا الإسقاط المذلّ من ويلات على سورية عندما دخل الحريري البيت الأبيض رئيساً للوزراء وخرج منهُ مُقالاً، جعلت كثراً في الطرف الآخر مشاريعَ «شهود زور».
لكن في المقابِل فإن النظر إلى هذهِ المتغيرات هو تفكير باتجاهٍ واحد، وعلى من يُعد العدة لحربٍ ما أن يعي المتغيرات التي تدعم خصمه:
أولاً: ليس لدينا ما نخسره، عبارة لم تعد مجردَ تعبيرٍ عن حال اليأس، بل هي بالمطلق عبارة قد تكون نقطة نهوض لكل من دخل قلبه اليأس، هناك من يعرف عملياً أن ما ستصنعه الحرب المباشرة لن يكون أكثر إيلاماً مما صنعته الحرب غير المباشرة مع الأذرع الصهيوأميركية، بل لو عدنا لسيناريو ما بعد انتصار 2006 فإن كل الانفراجات ظهرت بعد المواجهة، غالباً ما تكون الحرب مقتل المضطر إليها وليس من ينتظرها!
ثانياً: السلاح الفعال، في المعركة لا توجد خطوط حمر ولا يوجد تقنين للسلاح، في المعركة سيستخدم كل طرف مكامن قوته، فالعدو يعي تماماً أن كل ما جمعه من عملاء وخونة لنقل المعلومات وضرب منظومات الدفاع الجوي السورية مثلاً أضرت، لكنها لم تجعل السلاح في التقاعد، يعي العدو قبل الصديق أن ما تكتنزه سورية من سلاح مُطوَّر غير معلن عنه يكفي تماماً لقلب معطيات أي معركة، من دون أن يفكِّرَ أحد من الأصدقاء بالتدخل حينها لأنها ببساطة الحرب، والحرب بين جيشين تختلف في تكتيكاتها وترسانتها عن الحرب مع العصابات الإرهابية التي ترهق الجيش أكثر من استنزافها لمقدراته.
ثالثاً: المزاج الشعبي، هنا لابد من التفريق بين المزاج الشعبي الخائن لمبدأ عودة الأراضي المحتلة، والمزاج الشعبي الساخط على الوضع المعيشي، هذا المزاج الشعبي لا يمكن لجاهل أن يعوِّلَ عليهِ بأنه سينقلب ضد دولته أو مقاومته عند حدوث المعركة الكبرى، من يتبنى إستراتيجية كهذه هو كمَن يراهِن على «ناضور» سامي الجميل لحمايةِ لبنان و«تقشيط» المقاومة سلاحها، بل إن النظرة الشاملة للكثير من المزاج الشعبي في الدول العربية توضح تماماً أن الكيان ما زال بعيداً عن فكرةِ قلب الأولويات في ضمير الشعوب الحية في هذه المنطقة.
هكذا تبدو المعطيات جلية وواضحة لكل سيناريو، لكن أيهما يمتلك الكفة الراجحة؟
بعيداً عن العواطف لا يمكن استخلاصَ سيناريو وسطي عبر المزج بينهما، ولا يمكن لإيران أن تستثمر عبرَ حربٍ على لبنان في الاتفاق النووي، هذا بعيد عن المنطق، لكن يمكن للغرب أن يستثمر بسيناريو كهذا والمفارقة هنا بسيطة: نزع مخالب المقاومة في لبنان يجعل تطويع إيران تحصيل حاصل.
قد يبدو أن الوضع فعلياً يتجه نحو السيناريو الأسوأ، لكن في الوقت الذي لا يستطيع فيه أحد قبول بقاء الوضع على ما هو عليهِ، هناك من لا يريد حتى الآن أن يكونَ هو المُبادِر، ووفق هذه المعادلة ربما تستمر سياسة «حافة الهاوية» إلى اللحظة الأخيرة، دون أن تصل الأمور إلى حالة الانفجار التي لا يتمناها إلا من لا يريدون الخير لهذه المنطقة وشعوبها، وهؤلاء لن يقدموا عليها لأنها ستحرق أصابعهم قبل غيرهم، وهذه هي سياسة الردع التي استطاعت سورية والمقاومة تثبيتها.