قضايا وآراء

أميركا بين تصاعد العنصرية وأفول الديمقراطية

| الدكتور قحطان السيوفي

بعد قرون من العلم والتطور لم يُفلح العالم في التخلص من النوازع الشريرة عند البشر ومن العنصرية الظالمة التي قد تفوق همجية الحيوانات.
أسوأ الانتفاضات المدنية في الولايات المتحدة منذ أكثر من نصف قرن، تجبر الأميركيين على مواجهة مشكلات عميقة الجذور، تتعلق بعدم المساواة العرقية ووحشية الشرطة، في وقت تترنح أميركا من وباء قتل عشرات الآلاف من الأميركيين وضعف الاقتصاد، كجريمة الشرطي الأبيض، ديريك شوفين الذي خنق الأميركي الأسود، جورج فلويد، عام 2020 والتي لن تكون الأخيرة، وهي استمرار للمرض الاجتماعي القديم، العنصرية البغيضة.
تكرار الشجب والاستنكار، والتنفيس عن الغضب، في الولايات المتحدة الأميركية والذي انخرط فيه الغاضبون المحتجون مع اللصوص والسياسيين الانتهازيين، لا يطفئ الشعور بالظلم وعدم المساواة. ستُنسى الحادثة كما نسيت الحوادث السابقة، إلى أن يظهر فيديو جديد في وقت لاحق، ويعود المحتجون والاحتجاجات والحرائق.
الولايات المتحدة دولة على أرضها أعراق وإثنيات، لا مثيل لها في التنوع والتعدد. شعب مقسم إلى فئات متعددة.
العبودية التي استغلت الأفارقة، كانت في أساسها لأهداف اقتصادية في الولايات الزراعية، وتم تشريع الرق بالقوانين المدنية التي أنزلت هذا الإنسان إلى مستوى الحيوانات.
تنازعات تستعبد الناس باسم الدين والعرق والذكورية والطبقية والقبلية، وللقوانين الأميركية مع العنصرية، قصة طويلة عمرها 230 عاماً من المعاناة والرفض والتحول من تشريعات تحمي العنصرية وسلب الإنسان من أبسط حقوقه وكرامته إلى قوانين ملتبسة تميل لمصلحة البيض.
مقتل الأميركي الأسمر جورج فلويد، هي الأنامل التي كشفت الستار عن «الإشكال العنصري» في العالم الغربي الذي لم تستطع ستره كل «مكاييج» الحرية والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان، وأميركا على وجه التحديد التي تفخر بموزاييكها العرقي أمسى في الحقيقة عبئاً عليها أو قنابل موقوتة تنذر بالانفجار كلما لامس فتيلها حادثة قتل أو اعتداء أو تعذيب طرفاها أميركي أسود وأميركي أبيض.
يؤيد هذا أحداث الشغب في التاريخ الأميركي، ففي عام 1965 أدى توقيف رجال شرطة بيض لشاب أسود يدعى ماركيت فراي إلى تمرد في لوس أنجلوس، وتحول حي إلى ساحة حرب، بلغ عدد الضحايا 34 قتيلاً، وفي ولاية نيوجيرسي عام 1967 أفضت مشادة بين شرطيين أبيضين وسائق سيارة أجرة أسود إلى أعمال شغب في مدينة نيوآرك في ولاية نيوجرسي، إلى 26 قتيلاً والمسلسل مُستمر، آخره مقتل جورج فلويد الذي أجج الشارع الأميركي، وزاده لهيباً تزامناً مع انتشار وباء «كورونا» وترافقاً مع الانتخابات الرئاسية الأميركية وما رافقها من شغب طال مبنى الكونغرس.
بشكل عام أحد أسباب ارتفاع وتيرة العنف عند السود في العالم الغربي هو ارتفاع نفوذ اليمين المتطرف الذي تقوم طروحاته وأدبياته على العنصرية والإقصاء.
وهذا يتطلب عملاً لنزع فتيل هذه القنابل البشرية الموقوتة بإرساء أسس العدل ومراعاة حقوقهم من دون الالتفات إلى ضجيج العنصريين وصخب المتعصبين والإقصائيين، وأعيد هنا مقولة فلويد: لا أقوى على التنفس.
حاكم نيويورك أندرو كومو قال: «القضية الحقيقية هي استمرار العنصرية في هذا البلد. وهي مزمنة ومتوطنة ومؤسسية».
بالمقابل الجذور الاقتصادية لهذه المشكلة لا يمكن التغافل عنها، والأرقام شاهدة على أن هذه العنصرية لها أثر اقتصادي شنيع على أصحاب البشرة السمراء. الفجوة في الدخل والثروة بين العرقين اتسعت بشكل كبير في الولايات المتحدة، كارثة كورونا كانت كالزيت على النار، ففقد معظم موظفي الخطوط الأمامية وظائفهم، وكثير من هؤلاء من أصحاب البشرة السمراء ممن يعملون بالحد الأدنى للأجور.
يبدو أن الحراك الشعبي ضد العنصرية في أميركا مؤشر ضعف بنيوي للإمبراطورية وسيعجّل من أفول الديمقراطية، وخصوصاً بسبب العجز البنيوي للنظام عن حل مشكلة العنصرية.
ما يجري اليوم في الولايات المتحدة وتعاطي أجهزة الدولة معه يكشفان لنا، ولو جزئياً، جواب السؤال الذي طرحه ذات مرة إيمانويل والرشتين: «هل ستتعلّم الولايات المتحدة كيف تتأقلم مع الأفول بهدوء، أم إن المحافظين الأميركيين سيقاومون ذلك، وبالتالي سيحوّلون التدهور التدريجي إلى سقوط سريع وخطير»؟
أحد الكتاب السود كتب في القرن العشرين: «ربما كان قانون الرقيق في الجنوب قد مات. لكنه يحكمنا من القبر». اختناق جورج فلويد على يد الشرطة هو إحدى تلك اللحظات النادرة التي تستيقظ فيها أميركا البيضاء على مدى التغير.
يعج سجل حقوق الإنسان للولايات المتحدة بالعديد من الانتهاكات السافرة لهذه الحقوق، ولكنها تدعي الديمقراطية وتمثل دور «المدافع عن حقوق الإنسان» بوقاحة في جميع أنحاء العالم، وتنتقد بالقوة الشؤون الداخلية وأوضاع حقوق الإنسان للدول الأخرى.
مدير موقع «السياسة الخارجية تحت المجهر» الأميركي جون فيفر قال إن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب استخدم العنصرية كأداة لتدمير أي التزام أميركي دائم تجاه الليبرالية الدولية. وكانت هناك عوامل عنصرية دائماً في سياسة ترامب الخارجية، وقد انتقدت منظمة العفو الدولية بشدة إدارة ترامب لإلغائها معظم خطط إعادة توطين اللاجئين الأميركية وعدم الرغبة في قبول طالبي اللجوء وفرض حظر السفر على عدة دول ذات أغلبية سكانية من المسلمين ومواقفه العامة تجاه الهجرة. وفي عام 2019، في انتقاده الديمقراطيين الليبراليين، قال ترامب: إنه يجب على أربع عضوات ملونات في الكونغرس العودة إلى الأماكن الفاشلة التي أتين منها حيث تتفشى الجريمة، لكن تجاهلت تصريحاته حقيقة أن النساء الأربع كن مواطنات أميركيات.
وأكد الرئيس والمدير التنفيذي لمجموعة الأزمات الدولية روب مارلي، أن «كل الحكومات الأميركية السابقة، كانت لديها فجوة بين الأقوال والأفعال فيما يتعلق بتعزيز حقوق الإنسان، وتحت حكم ترامب، أصبحت هذه الفجوة وادياً سحيقاً إذ إن حكومات الولايات المتحدة بارعة في اللعب بـ«المعايير المزدوجة»، وتغض الطرف عن العنصرية داخل البلاد».
إن العنصرية تُمسك بحلقوم الديمقراطية في بلاد الكابوي، وردة الفعل على اختناق فلويد، هي قصة الظلم والبغي العنصري الأميركي، ويؤكد أن العنصرية في تصاعد والديمقراطية في تراجع وأفول.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن