إذا ما صحت رواية صحيفة الـ«واشنطن بوست» التي عرضت لها في تقريرها الذي نشرته مطلع هذا الشهر، فإن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تكون قد قررت الخروج من «الملاءة» التي ورثتها عن أسلافها، وفي الآن ذاته قررت أيضاً ارتداء واحدة غيرها لربما تكون أكثر اتساعاً، الأمر الذي من شأنه أن يتيح للجسد حالة من الارتياح تفوق نظيرتها في السابق، فيصبح أكثر مطواعية للقيام بحركات كان من الواضح أن السابقة لها تبدو معيقة بدرجة لا تدع مجالاً لإظهار المهارات.
يقول التقرير إن التحركات الأميركية في الملف السوري، والتي كان آخرها التوصل إلى اتفاق مع روسيا حول تمديد آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى شمال غرب سورية، تبدو غير كافية، ففي الوقت الذي تراوح فيه الحكومة الأميركية في مكانها فإن الأوضاع تتدهور على الأرض في سورية، والمستفيدان الأولان من هذا التدهور هو روسيا وإيران وفقاً لتقرير الصحيفة، ولذا فإن إدارة الرئيس بايدن تحاول من خلال تحركاتها الأخيرة رسم سياسات ترمي نحو «غايات بعيدة»، والغايات البعيدة هنا، وفقاً لتوصيف التقرير، تتضمن تخلي الولايات المتحدة «عن قيادتها للجهود الدولية الرامية لحماية المدنيين، وطرح حل سياسي فعلي للنزاع».
نقول إذا ما صحت تلك الرواية، وهي فعلاً كذلك وفقاً لمعطيات عديدة في الذروة منها وجود توجه صيني يقضي بدخول حلبة المنافسة لحجز مقعد متقدم في المنطقة انطلاقاً من الأزمة السورية، وهذا الفعل يمكن أن يفرض على واشنطن الأخذ بعين الاعتبار لحقائق عدة هي أن المنافس الجديد، كما المنافس الروسي القديم، لا يقيم كثير اعتبار في مقارباته لـ«الحالات الإنسانية» وشد أزر المعارضة، كما يفعل الغرب لغايات لا نظن أنها مخفية على أحد، وهذا ما يضع المنافسين، الصيني والروسي، في وضعية الأقرب لأغلبية الدول في المنطقة التي تتخوف من استخدام الغرب لشماعة «حقوق الإنسان» و«حرية التعبير» لإسقاط أنظمتها، ومنها، أي من تلك المعطيات، المقاربة الجديدة التي تبديها واشنطن للملف الأفغاني الذي يبدو مقبلا على تصعيد قد يحمل معه مجازر حين تقرر حركة طالبان السيطرة على العاصمة كابول، نقول إن صحت تلك الرواية فإن إدارة بايدن ستكون على موعد مع تحول جديد في الملف السوري ستكون له منعكساته العميقة على هذا الأخير، إذ لطالما كانت مقاربة الأزمات من الناحية «الإنسانية»، التي تشهد منعطفاتها الكثير من الخروقات التي تتراوح شدتها تبعاً لعصف المصالح التي يتبناها الخارج في أتون الصراع الذي تحمله بين جنباتها، تضفي على هذا الأخير تلونات من الصعب معها اكتساب تلك المقاربة صفة «الواقعية» التي تمنحها قدرة على شق الطرقات الآمنة بعيداً عن مشارف الهاوية.
بالتأكيد نحن هنا لا نسوق للنظرية القائلة بأن الولايات المتحدة تنطلق في معالجتها للأزمات الساخنة من منظار أساسي هو حماية المدنيين والحالة الإنسانية التي تخلفها تلك الأزمات، فتاريخ السياسات الأميركية مليء بما يدحض طغيان تلك الشعارات التي تصم بها واشنطن آذان هذا الكون، وآخرها، تلك الحملة التي قادتها في الأشهر الثلاثة التي سبقت صدور القرار 2585 في التاسع من شهر تموز المنصرم، والذي قضى بتمديد آلية إدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر «باب الهوى» على الحدود مع تركيا لستة أشهر سيجري تمديدها آلياً إلى سنة تنتهي في شهر تموز المقبل، فـ«الخوف على المدنيين» القاطنين على أرض سورية خارجة عن سيطرة الحكومة السورية لا يقابله، كما تقتضي الشعارات، نظير له على المدنيين القاطنين على أراض سورية تقع تحت سيطرة الحكومة، بل على العكس فإن واشنطن كانت قد جهدت، ولا تزال، إلى ابتكار «مكابس» تتمتع بكفاءة عالية، لوضع الأخيرين تحتها، أملا في الاستحصال على ما لا تتيحه المكابس التقليدية في العادة، وكأن هؤلاء ليسوا مدنيين، وليسوا ممن لهم حقوق يتمتع بها كل البشر وفقا لكل الشرائع والقوانين التي عرفها العالم، وهي تغذ الخطا حثيثاً على هذا المسار من دون أن يكون هناك من مبرر لعدم شمول هؤلاء بتلك الشعارات التي راحت تجلجل بها سوى أن ذلك فريضة لازمة لتقديم تنازلات لا غنى عنها للولوج نحو تسوية ما.
المؤكد هنا هو أن واشنطن لا تبدو مدركة هنا لحقائق التجارب، ولا هي تبدي تفهماً لها، على الرغم من أنها كلها تصدح بحقيقة ساطعة كما الشمس، ومفادها أن التسويات التي تجري على وقع الضغوط، وبما لا يتناسب مع طبائع الشعوب والحقائق الجيوسياسية للكيانات التي تعيش عليها، لن تكون إلا مقدمة لأزمات كبرى ستكون على الأرجح أشد ثقلاً عليها وعلى محيطها أيضا، وبمعنى آخر لن تكون أكثر من فعل هو أقرب إلى إعطاء مخدر لإسكات الوجع الذي لن يلبث أن يعاود الظهور بمجرد زوال تأثيره، ألم يتمرد الأتراك على اتفاقية سيفر 1920 التي ارتأوا فيها مشروعاً لتدمير بلادهم، ومن ثم استطاعوا إسقاطها على الرغم من أنها كانت تمثل مصالح أغلبية القوى الغربية آنذاك؟ ألم ينتفض الألمان على اتفاقية فرساي 1919 التي فرضت عليهم في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والتي نظروا إليها على أنها مشروع لتحجيم دور بلادهم في محيطها، فكان ذلك الشرارة الأولى التي قادت نحو الحرب العالمية الثانية؟ ثم ألا يمكن النظر إلى ما يشهده لبنان منذ نحو عقد من الزمن على أنه، في بعض محطاته، تمرد على اتفاق الطائف 1989 الذي أقر بفعل خارجي بالدرجة الأولى؟
في مطلق الأحوال يمكن النظر إلى إمكانية ذهاب إدارة بايدن نحو التخلي عن قيادتها للجهود الدولية الرامية لحماية المدنيين، وفقاً لرواية «الواشنطن بوست»، على أنها تحتوي على عوامل إيجابية، وخصوصاً إذا ما قاد ذلك الذهاب، عبر تفاهمات يمكن أن يفضي إليها الحوار الأميركي الروسي الذي لا تغيب الظلال الصينية عنه، إلى اتفاق مفاده أن السبيل الوحيد إلى حماية المدنيين يكمن في استعادة الدولة لدورها، وبسط سيادتها على كامل أراضيها، ومن خلال ذلك فقط يمكن نزع فتيل الانفجار الذي يتهدد مناطق لم تبرد سخونتها السابقة بعد، مثل هذا يمكن أن يحدث إذا ما أيقن «حاملو الفتيل المشتعل» بأن «حماية المدنيين» لم تعد شماعة أميركية.