يحدثك أحدهم بين مدة وأخرى عن الحضارة العربية والإسلامية، ويتغنى المغنون بالمجد الغابر، ويتلو الشعراء قصائدهم عن الماضي العظيم، فهذا خالد، وهذا ابن عبد العزيز، وهذا صلاح الدين، وفي الجانب الآخر هؤلاء العلماء الذين بذلوا الحياة من أجل طلب العلم، سواء كان العلم دينياً أم دنيوياً، وكل هذه الأحاديث صحيحة ومهمة، ولكن السؤال الأكثر أهمية: ماذا يفيدنا ونحن نغط في نوم عميق، وفي جهل مطبق؟! إن كان الغرب قد وصل إلى ما وصل إليه بجهده وتعبه وأبحاثه، سواء اعتمد على علمائنا وأبحاثنا أم لم يعتمد، سواء اعترف بفضل حضارتنا أم لم يعترف ما الفرق؟
إن كان الغربيون قد سرقوا حضارتنا العظيمة، وشطبوا أسماء المؤلفين العرب والمسلمين، ونسبوها إلى أنفسهم ليطمسوا أصول حضارتهم، واستطاعوا أن يمتلكوا الحضارة فهي لهم من دون جدال! وإن كان دانتي قد أخذ كوميدياه الإلهية عن المعري، واستطاع أن يكون في المكان الأسمى، فهو صاحب إبداع، وخاصة أن المعري نفسه كفرناه وجعلناه زنديقاً في زمانه، وبدل أن نأخذ إبداعه ولغته، لا نزال نتحاور فيما إذا كان أبو العلاء المعري مؤمناً أو ملحداً!
لم أسمع بدراسة عن المعري صدرت إلا حاولت الوصول إليها، ومع ذلك لم أجد أي كتاب يخرج عن إطار عقيدته وصحتها، ومحاولة تأويل هذه العقيدة فيما إذا كانت سليمة أم لا.
في اللاذقية ضجة بين أحمد والمسيح
الدراسات العربية بمجملها تناقش عقيدة المعري، وماذا أراد بقوله: ما الصحيح؟
هل يشكك بالأديان كلها؟ هل يميل إلى الإسلام؟ هل يفاضل بين الإسلام والمسيحية؟ وهكذا لم يصل الباحثون إلى عقيدة المعري، وكأن هذا هو الأكثر أهمية من رسالة الغفران وإبداعه! ومن رسالة الملائكة! وعن سقط الزند! وعن اللزوميات! ومن عبث الوليد وذكرى حبيب ومعجز أحمد! وحين تمكنا من الأمر قمنا بقطع رأس المعري حقاً في قطع رأس تمثاله في مسقط رأسه معرة النعمان، وإن كان هذا القطع لحجر، فإنه يمثل في حقيقة الأمر نموذجاً عن فكرنا العربي والإسلامي الذي عجز عنه المعري حياً، فأراد الانتقام منه بعد كل هذه القرون لأنه عبقرية! فعن أي عبقرية نتحدث؟ وبأي تاريخ نباهي؟!
ولو عدنا إلى أي عالم فإننا نجد أن الحديث يدور حول عقيدته! وإن كان عالم دين ولم نجد ثغرة في عقيدته، فإننا سنبدأ شيئاً آخر، وهو البحث في انتمائه القومي، فهل هو عربي أو فارسي أو تركي؟ وهل هو عربي أو أعجمي؟ وربما نبحث في طائفته ومذهبه وسلامته.. فهذا الزمخشري العظيم نترك أساس البلاغة، أهم ما وصلنا، ونترك فهمه العميق للقرآن الكريم في «الكشاف» لنرفض ما جاء عنه لأنه من المتكلمين، من المعتزلة، فنرفض آراءه جملة وتفصيلاً حتى لو لم تكن ذات مساس بالعقيدة، فهو معتزلي، والآخر أشعري، وآخر حنبلي سلفي، وآخر من الأحناف، وآخر مشكوك بعقيدته، وآخر من الزنادقة..! فعن أي حضارة نتكلم؟
ألم ينبرِ باحثون للطعن في النمو العربي لأنهم يرون سيبويه ليس من أصول عربية وهو واضع النحو العربي؟ بينما الأحرى بنا أن نأخذ هذا البناء اللغوي المحكم ونقوم بتطويره وتحسينه ليكون في المكانة الأبهى والأسمى..
سمعنا المتنبي:
ولست بقانع من كل فضل بأن أعزى إلى جد همام
المتنبي علمنا فلسفة الحياة على حقيقتها
المتنبي قال لنا: لا يهم أن يكون جدي عظيماً، بل المهم أن نكون نحن عظماء!
وحين يقحمنا المتنبي نبدأ الحديث عن عقيدته، وعن جبنه، وعن أنه شاعر مدّاح، ومن أنه طامع بالإمارة، ومن أنه مدح كافوراً العبد الأسود، وحين نجد الأمر صعباً علينا، نأخذ بعض الأبيات الشعرية من ديوانه لنبرهن على أن المتنبي كان شاعراً قرمطياً تابعاً لحركة القرامطة بما كان لهذه الحركة من أفكار، وما قامت به من تصرفات بما فيها سرقة الحجر الأسود من مكانه، وهبْ أن المتنبي كان ذات يوم من مؤيدي القرامطة، فهل هذا يعني ألا نأخذ بأشعاره وأفكاره؟
عن أي تراث نتحدث؟ عن أي تاريخ نتحدث؟
عن أي حضارة وفلسفة نكتب؟
أنتحدث عن الفلاسفة والمفكرين الذين قتلناها واغتلناهم وصلبناهم؟
أتتحدث عن فكرة حرة أضعناها لأسباب طائفية ومناطقية وقومية؟
أتتحدث عن عظام رجمناهم بالزندقة والكفر، وما نزال نردد هذه الاتهامات إلى اليوم؟
حين نعترف أننا أمة لم تُجِد في يوم التعامل مع فكرها وإنسانها يمكن أن ننهض، وحين ندرك أن مميزينا اليوم يستقطبهم الغرب ليس لشيء إلا لأننا نرفض المتميزين يمكن أن تتغير المعادلات!
لدينا حضارة ولا مقومات لفهمها!
لدينا غنى ولا نعرف سببه!
لدينا منجز أَهَلْنَا التراب عليه!
فلتصدح أغنيات المجد الضائع.