قضايا وآراء

وثب عراقي جريء

| عبد المنعم علي عيسى

لا يمكن فصل الدعوة العراقية لاحتضان مؤتمر إقليمي يجمع بين قادة دول الجوار الست: إيران، السعودية، تركيا، سورية، الأردن، الكويت، نهاية شهر آب الجاري، عن المخرجات التي خلصت إليها الجولة الرابعة من جولات الحوار الإستراتيجي الأميركي العراقي التي احتضنتها واشنطن شهر تموز الماضي بالتزامن مع زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى هذي الأخيرة، وبمعنى أدق لا يمكن للكاظمي أن يكون قد ذهب إلى ما ذهب إليه لولا وجود ضوء أخضر أميركي لكنه بالتأكيد من نوع «محدد الطيف» أميركياً.
لكن على الرغم من ذلك يمكن القول إن فكرة القمة تبدو أقرب إلى «جموح الخيال» قياسا إلى التناقضات التي من الصعب حصرها بين العديد من ثنائياتها، وقياسا أيضاً إلى كم النار التي لم يهدأ أوارها بعد، بل وتشير العديد من المعطيات إلى إمكان اتساع رقعتها من جديد على وقع تعثر العديد من التسويات، فيما «المجتمعون» يقفون على تضاد، يبدو أن لا تلاقيات فيه أقله وفق المؤشرات الراهنة، في جبهات تمتد من الجنوب اللبناني إلى العراق وصولاً إلى اليمن ثم مروراً بالجنوب السوري، حيث يمثل الحدان الأول والأخير، أي الجنوب اللبناني والجنوب السوري، «النوتة» التي ترسم النغمات، صعوداً وهبوطاً، في سيمفونية النار التي لا تزال تنبئ بإمكان اجتراح «حركات» لم يتحدد إلى الآن الرقم الذي يمكن أن يصل إليه جزؤها الأخير.
لربما يمكن القول إن جموح الخيال العراقي يكتسب مشروعيته من معطيات عدة، فهو يأتي في سياق إستراتيجية كان قد أطلقها الكاظمي منذ وصولة إلى السلطة في بغداد شهر أيار من العام الماضي، وهي، أي تلك الإستراتيجية، تقوم على محاولة «تصفير المشاكل» العالقة مع دول الجوار، وكذا القدرة التي أظهرها الرجل، في غضون المدة القصيرة نسبيا التي قضاها في السلطة، على إمساك العصا من منتصفها ما بين واشنطن وطهران خصوصاً ما بعد وصول الرئيس جو بايدن، المتغير في مقاربته للملف الإيراني، للسلطة في واشنطن مطلع العام الجاري، ناهيك عن أن بغداد كانت قد نجحت في الآونة الأخيرة بلعب دور الوسيط ما بين أطراف متضادة كتركيا ومصر اللتين رصدت تقارير، تكتسب مصداقية تؤكدها نبرة الخطاب المستخدم لدى كل من القاهرة وأنقرة بالتزامن مع خروج تلك التقارير للعلن، حدوث لقاءات سرية فيما بينهما على الأراضي العراقية، ثم إن المحاولات العراقية لجمع السعوديين والإيرانيين، تحت أي سقف كان، لم تنقطع، وإن كانت لم تحقق النجاح المأمول منها، قياساً للضباب الذي لن ينقشع إلا بعيد ظهور الدخان الأبيض من فيينا، ثم إن بغداد التي احتضنت قمة ثلاثية شهر حزيران الماضي جمعتها إلى جانب كل من القاهرة وعمان، وفيها جرى الحديث عن مشروع «الشام الجديد» الذي سبق وأن أطلقه الكاظمي قبل عدة أشهر، ترى نفسها في وضعية تسمح لها بتحقيق النجاح في مثل هكذا «قفزة» ستكون، إذا ما أضحت واقعاً، وثباً بالزانة، والرؤية، لربما تستند إلى معطيات مهمة من المؤكد أن أبرزها هو وجود غطاء أميركي، تؤكده المقاربة الأميركية الجديدة للمنطقة في ظل توجهات واضحة لدى إدارة الرئيس جو بايدن، ومنها أيضاً رغبة دول الجوار في استعادة العراق لدوره الفعال في المنطقة ما يشكل نقطة ارتكاز إقليمية مهمة يمكن الإنطلاق منها لإشاعة الإستقرار على امتدادها، بعد أن شكل الأخير، أي العراق، مركز تفجير لها منذ نيسان 2003.
الآن، من الصعب التنبؤ بالمسار الذي ستتخذه الأحداث حبوا نحو انعقاد القمة التي، فيما لو انعقدت، فلسوف تشكل خرقاً إقليمياً كبيراً سوف يساعد في احتواء «الفوضى المنظمة» التي أطلقتها واشنطن قبيل نحو عقد ونصف، ومن الراجح الآن أن تلك الفوضى قد خرجت عن المخطط لها، أو هي استنفدت أغراضها أو حققت الكثير من مراميها، وفي كل الحالات بات المطلوب هو محاصرة اللهيب كي لا يتسع أكثر، لكن من الصعب القول إن تلك القمة، حتى لو كان التمثيل فيها على مستوى القادة، فسوف تنجح في إيجاد تلاقيات تكون ملغية تماما لكم الافتراقات الهائل الذي راكمه صراع مصالح وأهداف لم تشهد للآن انزياحا يذكر، بل يصعب القول إن تلك القمة سوف تنجح في استصدار قرارات مباشرة أو صريحة، لكن مجرد التلاقي هنا يمثل كسرا لحواجز كبرى، والفعل من شأنه أن يفسح المجال أمام سيلان الحرارة في خطوط سلكية، ولا سلكية، باتت تعاني من الصدأ بفعل قلة الاستخدام.
فيما يخص دمشق، التي من المقرر أن توجه إليها الدعوة في وقت قريب جنباً إلى جنب طهران وعمان بعد أن جرى توجيه الدعوة لأنقرة والرياض والكويت، فإنه من الصعب التنبؤ بطريقة الرد السورية قياسا إلى الحذر الذي تبديه دمشق تجاه هكذا دعوات، ناهيك عن المرامي التي تهدف إليها، لكن من المؤكد أن تلك الفرصة سوف تشكل نافذة لها في جدار إقليمي معتم سبق وأن أغلق نوافذه عليها، ولربما يصح اعتبار ذلك إيذانا بكسر عزلة ثقيلة الوطأة ما انفكت ترمي بظلالها على العاصمة السورية منذ ما يزيد على عقد من الزمن.
وإذا ما أردنا الآن رسم صورة أوضح للأزمة السورية، فإنه من الممكن القول إن هذه الأخيرة ما كان لها أن تصل إلى المستويات التي وصلت إليها لولا وجود رزمة من الأزمات مع دول الجوار التي قامت بإذكاء النار حتى واصلت ألسنتها التمدد لتطال كل العروق السورية، وإذا ما كان هؤلاء قد أقروا بفشل «حرق الجسد»، والدعوة هنا تمثل إقراراً بذلك الفشل، فإن الواقعية تقتضي ملاقاتهم عند منتصف الطريق، حيث من المؤكد أن الفعل سيفتح الأبواب أمام دمشق لاستعادة دورها المفقود، الأمر الذي من شأنه أن يساعد في تثبيت الاستقرار الداخلي، إذ لطالما كان للتوهج في الخارج فعل السحر الذي يراكم أثقالا على توازنات الداخل، فيوقظ إحساسا في الذات السورية يمني النفس بأن العربة» تسير على مسارها الصحيح.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن