بالأمس حطّت حركة طالبان رحالها في العاصمة كابل، لتعيد بذلك صفحات التاريخ إلى ما قبل عام 2001 أي قبل الاجتياح الأميركي، حيث كانت العاصمة آنذاك تحت سيطرة الحركة بقيادة الملا عمر بالاشتراك مع تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن.
في عام 2001 وعقب أحداث نيويورك في 11 أيلول، اجتاحت القوات الأميركية أفغانستان وطردت حركة طالبان من العاصمة ومعظم المدن الرئيسية في البلاد وطاردت تنظيم القاعدة وصولاً إلى اغتيال أسامة بن لادن في باكستان في 2011.
نجحت الولايات المتحدة الأميركية في إقامة نظام رئاسي موال لها في أفغانستان ودعمت تشكيل وتسليح جيش أفغاني بصبغة جديدة واعتقد البعض أن «زمن أول قد تحوّل» وأن لا عودة إلى الوراء.
لكن ما جرى ويجري في أفغانستان أثبت العكس تماماً وأن الثوابت الأميركية هي أن لا ثوابت إطلاقاً، وأن للسياسة الأميركية لا سياسة محددة، وأن القيم والمبادئ الأميركية هي أن لا قيم ولا مبادئ، وأن حليف أميركا هو اللاحليف، وأن كل شيء قابل للتغيير والتضحية به مقابل ضمان المصالح الأميركية فقط.
مشهد مغادرة الأميركي لأفغانستان وإتلاف وثائق السفارة الأميركية في كابل، أعادنا إلى مشهد سقوط سايغون عام 1975 مع فارق بسيط هو إعلان انتصار قوات الفيتكونغ في معركتها على القوات الأميركية، فيما لم تشهد أفغانستان معارك مشابهة بين طالبان والقوات الأميركية.
اختلف بعض المفكرين والباحثين والكّتاب في تقييم الانسحاب الأميركي من أفغانستان فذهب البعض إلى حد إعلان انهزام المشروع الأميركي في أفغانستان وامتداداً في المنطقة وأننا بدأنا نعيش نشوة الانكفاء الأميركي عن أفغانستان واستطراداً عن المنطقة.
أما البعض الآخر فيرى بالانسحاب الأميركي من أفغانستان ليس إلا ترجمة لنجاح الإستراتيجية الأميركية القائمة على تثبيت مصالحها من خلال زرع الفوضى وإثارة الفتن والتقاتل من دون تكبد الخسائر المكلفة.
ما يعزز فكرة نجاح إستراتيجية تثبيت المصالح الأميركية هو التاريخ نفسه حيث إن الولايات المتحدة الأميركية لم تدخل أو تجتاح بلداً إلا وتركته ممزقاً مهزوماً تتنازعه الحروب الطائفية والعرقية محروماً من أبسط مقومات الإنسانية والعيش الكريم وبلا دولة قوية، منهوب الثروات المجيّرة لمصلحة مافيات تأتمر بأوامر الغرف الأميركية السوداء.
من جهة أخرى نلفت إلى أن العاصمة القطرية الدوحة، شهدت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب اجتماعات ومباحثات عدة ومباشرة بين ممثلين عن الإدارة الأميركية وممثلين عن حركة طالبان أسفرت في عام 2018 عن إبرام اتفاق معلن بين الإدارة الأميركية وطالبان قضى بانسحاب قوات الأخيرة من أفغانستان، لكن من دون الإعلان عن تفاصيل الانسحاب العسكري أو عن المطالب السياسية ولا عن المدة الزمنية اللازمة لتنفيذ خطوات الانسحاب الأميركي.
مما لا شك فيه بأن الانسحاب الأميركي السريع من أفغانستان جاء لتحقيق أهداف أميركية البعض منها معلن ليبقى بعضها السري غير المعلن هو الأهم.
أميركا تعاني من جبهة داخلية شبه مفككة وتراجع في ميزان الاقتصاد ونزف مستمر في الخزينة إضافة إلى تكبدها خسائر بشرية فاقت 3000 قتيل وأكثر من 20 ألف جريح جراء وجودها في أفغانستان، فكان لا بد من الحد من النزف الاقتصادي ومن الخسائر البشرية بالتوجه صوب تنفيذ الانسحاب، فيما وقفت الحكومة الأفغانية الموالية لأميركا في كابل حائرة لا حول لها ولا قوة أمام القرار الأميركي غير المنسق معها، الأمر الذي يعزز فرضية الاتفاق السري بين طالبان والإدارة الأميركية.
مع مغادرة ترامب الحكم وتسلم جو بايدن تعززت فكرة الانسحاب الأميركي حيث إن الرئيس الجديد أراد التخلص من العبء الأفغاني الذي استنزف جيشه وخزينته طوال 20 عاماً تاركاً الأمور تشق طريقها بالتنسيق مع طالبان وبمعزل عن التنسيق مع الحكومة الأفغانية الحالية ما جعل عودة طالبان إلى الواجهة وسيطرتها على مرافق الدولة أمراً بغاية السلاسة وأشبه بحفل تسلّم وتسليم لمقاليد الحكم.
قد يبدو للبعض أن طالبان اليوم تختلف عن طالبان الملا عمر خصوصاً بعد بيانات طالبان التي تعهدت بعدم زعزعة الأمن مع دول الجوار وحفظ الحريات الدينية وضمان عدم استقبال أو تدفق الإرهابيين من وإلى دول الجوار إضافة إلى ضمان سير الخط التجاري بين دول آسيا الوسطى وروسيا والصين بمشاركة جميع الأطياف والعشائر الأفغانية، بيد أن السؤال الذي لا بد من طرحه:
إذا كانت تلك الضمانات المذكورة آنفاً هي الإستراتيجية الجديدة والمعلنة لطالبان فهل تتطابق مع مصالح أميركا الإستراتيجية خصوصاً أنها لا تكنّ سوى العداء المتبادل لدول تتشارك الحدود الواسعة مع أفغانستان مثل الصين وروسيا وإيران، ناهيك عن حدودها مع باكستان؟ الجواب بالطبع لا.
إن انسحاب أميركا من أفغانستان جاء ترجمة حرفية لدراسة أميركية إستراتيجية تفيد بأن اللعب عن بُعد في أفغانستان أفضل من الانغماس في التفاصيل المكلفة.
أميركا تجيد اللعب على التناقضات العشائرية والطائفية وتحترف تجيير الخراب لمصلحتها ومن أجل بسط نفوذها عن بُعد لكن بوساطة الأدوات المحلية تماماً كما حصل في العراق وسورية ولبنان.
لن تترك أميركا لطالبان الجديدة مهمة تنفيذ إستراتيجيتها المبنية على ضمان أمن الجوار لأن غرف أميركا السوداء وضعت الخطط للاستفادة من الفوضى العشائرية والمذهبية مع الهزارا لتجييرها ضد إيران وإنهاكها عبر حدود تمتد 900 كم مع أفغانستان، وستكون الفوضى القادمة عاملاً مهماً في تعطيل تنفيذ خط الحرير الصيني الذي يمر بأفغانستان وباكستان وصولاً للعراق وتركيا وإيران، أضف إلى ذلك أهم ما في الإستراتيجية الأميركية هو إشغال روسيا عبر حديقتها الخلفية المتمثلة بدول «ستان» التي تتشارك جغرافياً مع أفغانستان مثل أوزباكستان وتركمنستان وطاجيكستان.
إن الانسحاب الأميركي من أفغانستان يصب في خانة الربح الأميركي الصافي في إدارة اللعبة عن بُعد ومن دون عناء أو خسائر، وما حصل في كابل ليس انهزاماً للقوات الأميركية من أفغانستان والمنطقة بقدر ما هو فيلم أميركي طالباني لحفل تسلم وتسليم، مع وجوب الحذر من إمكانية تكرار هذا الفيلم الأميركي بنسخة عراقية سورية لكن بإخراج وتمثيل عملاء أميركا في كلا البلدين.