مازال إنساننا العربي ممتلئاً بأحلام الديمقراطية، وبالتراكم الديني التاريخي المسكون في عقله الباطن نظرياً لا علمياً، ومعها يتابع مشكلاته الحياتية الجزئية التي تسيطر عليه حتى اليوم، وتظهر أشد من شعوره بمشكلات الحياة الكلية، وسبب ذلك أن عيشه ضمن كهفه المظلم الذي يقيده بالتقاليد والغرائز، التي تضيق عليه، تمنعه من مجاوزة ذلك، لم يؤمن بالعام، لم يؤمن بالإنتاج للأرض، إيمانه تدين ذاتي، يحضّ به نفسه أولاً، وبعده الأقرب إليه.
وأنا أسير تحت عنواني، أفكر في الكيفية التي لا تحترم صميمية الحب أو الصلاة، ولا خفر البؤس، ولا طمأنينة السعادة، ولا جلال الموت، فليس مدار الأمر هنا على إيذاء الذوق السليم، ولا على نقض الحياة الاجتماعية، وإنما هو متعلق بالاعتداء الحقيقي على الشخصية الإنسانية.
الديمقراطية خطوة من خطوات العلم، وفتوحه تسير بين الطرائق والمعارف، تستند إلى مقتضيات التركيب العقلي التي يثيرها بالتعريف، معنياً بالإنسان والعالم، والعلم لا يطمح لتحقيق وحدة المعارف فحسب، بل يطمح لتحقيق وحدة الأذهان، هذه التي لم تتحقق إلى الآن، فلم تنجح أفكار العلم حتى اللحظة في إقناع الناس بالعدالة والتعقل والتسامح والطيبة، على الرغم مما وصل إليه من منجزات أفادت البشرية جمعاء، والسبب أن استمرار الجوع والكراهية وعدم استيعاب إنسانية الإنسان والفوارق الطبقية مازالت تعيث فساداً في العالم.
إن وحدة الإنسان المتميز بأبعاده تأخذ به ليكون في وجوده المفرد كثرة ضمن هذه الوحدة، التي لا تتم إلا بإعطاء الفكر مساحة واسعة، كي ينتج أفكاراً قابلة للتحقق وللانتشار، ولن تكون هذه الأفكار مفعمة، إلا إذا لقيت قبولاً من الآخر، لأني أجزم أن ليس في هذا العالم من فكرة ممتازة لها طلاسم من السحر تقيها من منافسة فكرة أخرى، شريطة أن يفسح مجال من الحرية للفكر، فلا يقدر أحد على التفكير إلا إذا امتلك حرية، وبالتفكير الحر والتعبير الحر يقدر إنساننا على الإبداع ووصوله مع الآخر للتطور، وإن وصلنا إلى درجة التحرر الفكري يتحرر الجسد من مفاهيم الاستهلاك المحكومة بالشهوة والرغبات الفردية، ليذهب إلى مفاهيم الإنتاج، وهذا يدعو إلى عدم التساهل مع عدم التسامح في حالات الخلل الفكري، لأن ضرورة الذهاب للمحاسبة تفتح الطريق واسعاً أمام المهتدين، وتشجع على زيادة إخلاص المؤمنين وزيادة الإنتاج، ويرتاح مع المحاسبة الفكر العام، وينتشي الحر منه، لإيمانه بالإنصاف، ومعه تتجه الكثرة إلى الاهتمام بالإنتاج والندرة إلى الإبداع، ليغلب عنصر الإدراك على كل من العواطف والمشاعر، ونرى حينها الفكر يعمل بتوجيه ذاتي منطقي لا مجال للخطأ، وتقل نسبة جنوحه إليه، فالخطيئة تحضر من العواطف التي تؤثر في القرارات، فإذا لم يجعل الإنسان من حياته دائرة للتفكير بها، فلن يعرف كيف يصون حقوقه التي يجب أن تعني صون حقوق الآخرين، لتمترس من انفلات التفكير خارج إطار الحرية، التي تؤمن بأن للآخر حقاً في الحرية، وأن للكل الحق في أن تبني وتزهر وتنمو بشرط توافر شرعية النمو والأفكار التي تنمو بها، وعندما تحضر لا أحد يقدر على دحضها، لا ينبغي أن نستسلم لانفعالاتنا، ولنفكر، ولندون بعد أن ندقق فيما يحتاج إليه مجتمعنا.
تعالوا من أجل النجاح، أن نمجد الخير من جديد، ولنبدأ برسم السعادة، ولنكن أسرع من المحبطين، وأعلى صوتاً وحركة وعملاً، لأن المستفيدين من إبقاء التخلف والعاملين على استمرار الجهل والتجهيل كثيرون.
للتفكير كما لكل شذوذ أو عدوان على النفس والحرز أقضيته الخاصة، لأن فعالية الإنسان لا تنتصر على ذات أصولها، بل تتعداها إلى أحوال غيرنا، فتفعل فيها فعلها، وتؤلب العقول، وتقود الأفكار بصنوفها المتعددة إلى المهوى الذي تسعى إليه، وإنه لحقيقة حقة، ذلك القول المأثور في العالم النفساني «الفرد نوييه» بأن كل فكرة في حدّ ذاتها حركة نبات على المختصين إذاً أن يخشوا كثيراً من الأفكار التي تظهر وتنتشر عبر وسائط التكنولوجيا على أدمغة الناس وأفئدتهم، حتى لكأنها رصاص دمدم، يفتك بالجسوم، ويخرب أجهزتها الحيوية الظاهرة منها والخفية، فلا يعاد لها سبك، ولا تستقيد لحبك، وصلت إلى أن أفضل اتجاه يختاره الإنسان هو اتجاه العلم والعمل، حيث بهما ومن خلالهما يبني له وللآخر، ومعهما أجد أنه مسموح التفكير بالاتجاهات.