قضايا وآراء

جميعكم أفغانستان

| منذر عيد

كثيرة هي الصور التي رسمتها طريقة انسحاب قوات الاحتلال الأميركي من أفغانستان، من صورة الذل الأميركي إلى صورة قلق وترقب الحلفاء وصورة التخلي عن العملاء، إلى صورة النشوة لباقي التنظيمات المتشددة حول العالم «إخوة الإرهاب» لحركة طالبان، وكثرة التحليلات والتأويلات حول سبب ذاك الانسحاب بتلك الطريقة، تنسيق أم خذلان، انسحاب أم تسليم، كل ذلك وفي المجمل كان الحدث زلزالاً ضرب القريب والبعيد من مركز الحدث.
من يقرأ تاريخ الولايات المتحدة، وتدخلاتها في شؤون الغير، يعلم علم اليقين، رغم فداحة الموقف، أن ما جرى ليس بالمستغرب ولا بالجديد على السياسة الأميركية، بعيداً عن «سين أو عين» من الرؤساء، فالولايات المتحدة الأميركية تحكمها إدارات ومصالح، وليس أحزاباً وأشخاصاً، وبعيداً عن شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان التي تتخذها مطية لتحقيق أهدافها ومصالحها، فما دفع أميركا للدخول إلى فيتنام والخروج منها ذليلة عام 1973، هو السبب ذاته الذي دفعها للدخول إلى أفغانستان والخروج منها بالطريقة ذاتها، والأمر ذاته تدخلها في شؤون دول الشرق الأوسط، وان اختلفت الأسباب والمبررات هنا وهناك.
بين الذريعة للتدخل الأميركي في أفغانستان قبل 20 عاماً، والنتيجة النهائية، تؤكد الحقائق وأرض الواقع أن أميركا لم تذهب إلى «أرض الموت» لبناء جيش أفغاني وطني قوي قادر على حماية حدوده، أو حكومة قوية قادرة على إدارة أمورها، فهل من عاقل يظن أن من صالح أي إدارة أميركية العمل على بناء جيوش قوية، ودول محصنة، في العالم الثالث أو في منطقة توجد فيها مصالحها الإستراتيجية، ومصالح ربيبتها الكيان الصهيوني، وهل يظنن عاقل أن دخول القوات الأميركية إلى أفغانستان كان لأجل محاربة الإرهاب وحركة طالبان، انتقاماً لأحداث الحادي عشر من أيلول، تلك الأمور أكدها أمس الرئيس الأميركي جو بايدن في خطاب إلى الأمة ألقاه من البيت الأبيض، قائلاً: «المهمة في أفغانستان لم تكن يوما بناء دولة (…) ذهبنا إلى أفغانستان منذ ما يقرب من 20 عاماً بأهداف واضحة تتمثل بالقضاء على أولئك الذين هاجمونا في 11 أيلول 2001، والتأكد من أن القاعدة لا يمكنها استخدام أفغانستان كقاعدة لمهاجمتنا مرة أخرى»، وهذا الأمر ليس بالغريب على الولايات المتحدة الأميركية فهي لم تكن جادة يوما في نقل البلد من حالة التشرذم والفوضى إلى بر الأمان، بل إن هدفها كان إحداث المزيد من الانقسامات والفوضى بهدف انتقالها إلى دول الجوار، ولم تكن جادة يوماً في محاربة الجريمة وزراعة المخدرات، ولا في إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية، واليوم تظهر بوادر تلك السياسة «الخبيثة» حيث تحولت أفغانستان برمتها إلى «إمارة للقاعدة»، وشرب نخب ذاك الانتصار، جميع «إخوة الإرهاب» في أصقاع الأرض، بعد أن كانت طالبان قبل ذاك التدخل، كانت جماعة تسكن الجبال والكهوف.
من المؤكد أن تداعيات عدة، وارتدادات كثيرة، سوف تشهدها الأيام القادمة نتيجة ما جرى في أفغانستان، سواء على الصعيد الداخلي الأفغاني، أم الداخلي الأميركي، أو على الصعيد الإقليمي والدولي، وسينشغل العالم برمته لفترة لن تكون بسيطة في الشأن الأفغاني، ومن المؤكد أن ثمة أثماناً سوف تدفع هنا أو هناك، والبعض سوف يقدم «كبش فدا» لما جرى، إلا أن الأهم من كل ذلك بالنسبة لنا في الشرق الأوسط، فإن انشغال البعض، مما يصنف نفسه حليفاً وصديقاً للأميركي، وتخوفه من تداعيات ما جرى هو أكبر بكثير مما يتوقعه البعض، وكما يقول المثل «الحزن عندهم بيندق بالجرن».
وصل صدى «الانتصار الهدية» لطالبان إلى مسامع «إخوة العقيدة» في شمال غرب سورية حيث فرع تنظيم القاعدة «هيئة تحرير الشام» واجهة جبهة النصرة، فكان ما كان من فرح وابتهاج، ليكون السؤال الأكبر، هل شاهد أصحاب الرؤوس الحامية في ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية –قسد» إخوة «العمالة والخيانة» وهم يسقطون من طائرات صديقهم الأميركي، وهل من معتبر وقارئ جيد للمستقبل قادر على إقناع تلك «الرؤوس» بالمسارعة إلى إعادة ما دمروه من جسور على الطريق الواصلة إلى دمشق؟
حتى الأمس القريب فإن ثمة معضلة مازالت متجذرة في مفاصل ومتزعمي ما يسمى «الإدارة الذاتية» الكردية الانفصالية، معضلة اسمها «وهم الصداقة» مع الأميركي، ووهم عودة خطر تنظيم داعش الإرهابي إذا ما انسحب الأميركي من مناطق شرق سورية، فتراهم يلعبون على تلك الأوتار المقطوعة في حقيقة الأمر، حيث حاولت ما تسمى الرئيسة المشتركة لـ «مجلس سورية الديمقراطية-مسد» إلهام أحمد الادعاء بأن الانسحاب الأميركي سيؤدي إلى عودة سريعة لتنظيم داعش الإرهابي وغيره من التنظيمات المتطرفة بسرعة هائلة.
تهويل متزعمي «الإدارة الذاتية» الانفصالية بكل أطيافها ومكوناتها، يجافي الحقيقة حكماً، ومن المستحيل أن يؤتي أكله لسبب بسيط، وهو أن الاحتلال الأميركي يعي حقيقة تلك الكذبة المسماة الخطر الوهم لـ «داعش»، فهو من عمل على فبركتها، وهو من يمسك بـ «رسن» داعش الإرهابي، إضافة إلى أنه ورغم علمه بخطورة طالبان الحقيقية، ترك أفغانستان وفر هاربا، وأما رهان أركان ميليشيات «قسد» على صداقة وتحالف مع الأميركي، فقد ذهب دون أدنى شك أدراج الرياح مع تلك الصور التي أظهرت «أصدقاء واشنطن» من الأفغان وهم يسقطون كالعصافير من شاهق لكن من دون أجنحة.
لم يعد أمام متزعمي «الإدارة الذاتية» الانفصالية المتسع من الوقت لتحديد خياراتهم، فجميع الأوهام التي كانوا يعيشونها، وجميع أسباب القوة التي كانوا يراهنون عليها سقطت في كابل، وما عليهم في حال الاستمرار بأوهامهم تلك إلا البحث عن بغل أجرب للهروب نحو جبال سنجار وقنديل، فطائرات المحتل لا تتسع للعملاء والخونة كما أكدت أفغانستان ومن قبلها فيتنام، أو الإسراع في ترميم ما نسفوه من جسور على الطريق نحو دمشق، فاستقبال العائدين على أقدامهم، يخالف كثيراً استقبال العائدين زحفا على البطون.
«مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن