انشطار تركيا إلى كوكبين
د. بسام أبو عبد اللـه :
شكلت نتائج الانتخابات التركية مفاجأة للكثير من المحللين، والمتابعين للشأن التركي، وحتى لأكثر المتفائلين من حزب أردوغان الذين كانوا يقدرون أن عدد المقاعد التي يمكن أن يحصلوا عليها لن تتجاوز (280) مقعداً. والسؤال هنا ما الذي أحدث المفاجأة في أنقرة؟ وما الأدوات التي استخدمها أردوغان، وفريقه للوصول إلى هذه النتيجة؟
تشير معظم التحليلات للواقع الانتخابي التركي إلى عدة عوامل لعبت الدور الأساس في هذه النتيجة منها:
1- استخدام الترهيب، والتخويف كأداة أساسية للقول للناخب: (إما حزب أردوغان وإما الفوضى)، وهو ما ظهر في تفجيري سوروتش 20/7/2015 وأنقرة 10/10/2015، اللذين أديا إلى مقتل المئات من الأكراد، الأمر الذي أوقف الحملات الانتخابية للأحزاب السياسية نتيجة تدهور الوضع الأمني، وترافق ذلك مع تهديدات أطلقها أحمد داوود أوغلو بعودة (سيارة طوروس البيضاء)، التي كانت تستخدم سابقاً في خطف المعارضين- وقتلهم في ثمانينيات القرن الماضي.
2- تسخير إمكانات الدولة التركية بالكامل لمصلحة حزب العدالة والتنمية في معركته الانتخابية، وبدا عدم التكافؤ واضحاً على الأقل في عدد الساعات التي خصصت في وسائل الإعلام الحكومية، والخاصة للأطراف المتنافسة، إذ أشارت دراسة تركية إلى أن 12 محطة تلفزيونية بما فيها الحكومية بثت على مدى 25 يوماً: خطابات أردوغان لمدة 138 ساعة، أي ما يعادل (خمس ساعات و52 دقيقة يومياً- تخيلوا هذا الأمر!!!).
وإذا أضفنا إلى ذلك خطابات داوود أوغلو، وقادة آخرين من حزبه التي وصل عدد ساعاتها إلى (338 ساعة)- فإننا نتحدث هنا عن طوفان إعلامي لمصلحة الحزب الحاكم، وأما أحزاب المعارضة فلم تحصل إلا على 36 ساعة لحزب الشعب الجمهوري، و21 ساعة لحزب الحركة القومية، و6 ساعات فقط لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
وترافق ذلك مع تهديدات لوسائل إعلام معارضة، واعتقالات لصحفيين، ومصادرة لمحطات تلفزيونية خاصة تحت يافطة مخالفاتها للأنظمة المالية، أو الارتباط بجماعة فتح الله غولين حليف أردوغان السابق- حيث تشير معظم الدراسات إلى أن أردوغان وأنصاره أصبحوا يسيطرون على 80% من وسائل الإعلام.
3- استثارة الشعور القومي التركي من خلال العمليات لضرب حزب العمال الكردستاني، ووقف عملية السلام المفترضة، مقابل سقوط قيادة دولت بهتشلي زعيم حزب الحركة القومية الذي كان موقفه ما بعد الانتخابات في 7/6/2015 مرتبكاً، ومثيراً للشبهات، ما أدى إلى كسب حزب أردوغان جزءاً مهماً من أصوات القوميين.
4- انفضاض الكتلة المحافظة المتدينة الكردية عن حزب الشعوب الديمقراطي وعودتها للتصويت لمصلحة الحزب الحاكم، بعد عمليات التخويف والترهيب وانتشار الفوضى، والاضطرابات الأمنية التي شهدتها المدن الكردية بين 7/6/2015- والانتخابات الجديدة في 1/11/2015.
5- حصول حزب أردوغان على أصوات (الإسلام التقليدي) المتمثل بحزب السعادة- الذي كان قد حصل في انتخابات 7/6/2015 على 2.4% ليخسر في الانتخابات الأخيرة 2% من هذا الدعم.
بشكل عام يمكن القول: إن فوز حزب أردوغان تحقق، وإن إستراتيجية التخويف، والقتل، والترهيب نجحت في الوصول إلى ما يبتغيه أردوغان شخصياً الذي كان قد أصيب بصدمة كبيرة في انتخابات حزيران الماضية لينطلق بعد الفوز الأخير بالتغريد عبر تويتر -وهو الذي كان يعتبر أن وسائل التواصل الاجتماعي أشبه بـ(سكين في يد القاتل).
تناقضات، وأكاذيب عديدة يطلقها الأردوغانيون، في كل يوم، وكل ساعة- فأكثر ما يتقنه هؤلاء هو الكذب، والنفاق في كل شيء بدءاً من تصريحاتهم حول الحريات، وفي الوقت نفسه إغلاق وسائل الإعلام- واعتقال الصحفيين، وحديثهم عن احترام الآخر وفي الوقت نفسه عدم قدرتهم على القبول إلا بحكم الحزب الواحد الذي كان داوود أوغلو قد أعلن (أنه المخرج الوحيد لتركيا)- لكنهم مستعدون للتنظير عن الديمقراطية، والحريات في سورية مثلاً –وهو أمر غريب- عجيب لا يمكن وصفه إلا بانفصام الشخصية.
الآن: حزب أردوغان منتصر، ولكنه لا يريد أن يفهم أن 50% من الأتراك لم يصوتوا له، أو كما سبق لبولنت آرنيتش أحد مؤسسي هذا الحزب أن قال: (علينا أن ندرك أن50% من الأتراك يكرهوننا- ولذلك علينا مقاربتهم بشكل صحيح). أي هناك 50% من الأتراك لا يتفقون مع أفكار حزب أردوغان الدينية- المنافقة فماذا عليهم فعله بعد الآن؟
– الواضح أن أردوغان يريد الاستمرار في سعيه لتحويل تركيا من النظام البرلماني إلى الرئاسي، وكان هذا الأمر واضحاً من خلال تصريحات كبار المسؤولين في حزبه، أو المقربين منه، حول الدستور الجديد، أو تعديلات للقديم باستفتاء شعبي.
الأهم: كيف سُيصرف هذا النصر الانتخابي خارجياً، وخاصة في سورية؟
– الجواب إننا أمام سيناريوهين:
– الأول: أن يكون أردوغان قد قرأ نتائج هزيمته الأولى في حزيران، التي كانت سورية في صلب حملاتها الانتخابية، وأدرك حجم العزلة التي تعيشها تركيا، والتحولات التي جرت بعد الدخول الروسي، وبدء مسار فيينا الجديد للحل السياسي في سورية، فيتوقف عن سياساته السابقة، ويسعى إلى اللحاق بركب قطار التسوية الذي انطلق في فيينا- وخاصة أن أردوغان بذل أقصى ما يستطيع في دعم الإرهاب، وفشل مشروعه العثماني على صعيد المنطقة، ولم يبق منه إلا بقايا الإنكشارية التي هللت لفوزه، وأظهرت (وطنيته السورية) ما شاء اللـه!!! عبر بيانات تكشف حجم ارتباطها- وأجندتها غير الوطنية.
الثاني: أن يزهو أردوغان بفوزه، ويعتقد أن بإمكانه صرف هذا الانتصار الانتخابي في سورية، عبر زيادة التدخل والدعم للإرهاب، وتنظيماته من داعش، للنصرة إلى غيرها من إنكشاريي العثمانية الجديدة التي سقطت- وانتهت، وهو ما سيعني تصادماً مع روسيا، وإيران- وحتى الاتجاه العام الأوروبي والدولي الداعم للحل السياسي في سورية.
– لكن السؤال الذي ركز عليه أغلبية الصحفيين الأتراك من معارضي أردوغان –كان: إلى أين تتجه تركيا؟ وهل فوز حزب العدالة والتنمية سينهي حالة الانقسام الحادة داخل المجتمع التركي التي نجمت عن الخطاب الديني- الغريزي الذي قاده هذا الحزب طوال (12) عاماً، فقسم المجتمع التركي، وأراد تقسيم مجتمعات المنطقة تحت يافطة دينية مخادعة، وكاذبة، ومنافقة؟
– الجواب واضح في مقالات عدة في الصحافة التركية، والغربية التي تتحدث عن اتجاه تركيا نحو الاستبداد –كما أشارت كبريات الصحف الأميركية، البريطانية، وظهر كذلك فيما قاله (جان دوندار) الصحفي التركي في جمهورييت من أن المجتمع التركي منقسم إلى معسكرين يجلس أردوغان في وسطهما- وهذان المعسكران هما: أولئك المستعدون للموت من أجل أردوغان، وأولئك الذين لم يعودوا (يطيقونه) وأن هذا الانقسام أصبح أبدياً، وأما صحيفة (زمان) فقد وصفت نتائج الانتخابات بأنها (العودة إلى المربع صفر).
– صحفيون أتراك عبروا عن القلق البالغ من كذب، ونفاق قادة حزب العدالة والتنمية الذين يتحدثون بكل صفاقة عن أن تركيا أكثر بلدان العالم حرية في الصحافة؟ وفي الوقت نفسه يُسجن الصحفيون، وتصادر وسائل الإعلام في وضح النهار –وهنا يشير (أورهان كمال جنكيز) الكاتب في توديز زمان إلى ذلك بالقول: كيف يمكن أن نشرح لهؤلاء ممن يتحدثون بهذه الطريقة؟ وكيف يمكن الحديث عن الحرية مع أناسٍ يناقشون بهذه الطريقة؟ ليستكمل كلامه بالقول: نحن لسنا فقط في بلدين مختلفين؟ بل من كوكبين مختلفين؟ ولا نستطيع فهم بعضنا – بعضاً. – ليتابع هم أحرار- بينما نشعر نحن أننا مكبلون بالسلاسل؟ فعلاً نحن نعيش في عالمين مختلفين؟
– يبدو واضحاً أن فوز حزب أردوغان لن يخرج تركيا من أزماتها، ما دام هذا الحزب يصنف الناس بين (مسلمين، وكفار) كما تقول نوراي ميرت أستاذة في جامعة أستانبول، ما دامت الغرائز الدينية هي الأداة الوحيدة لوصول هؤلاء إلى السلطة، ما دام هؤلاء مستمرين في استخدام الدين أداة للتمسك بالكرسي… حتى لو كان نصف المجتمع يعارضهم في ذلك…
– الدرس المستخلص الأهم: أن تركيا سقطت كنموذج للديمقراطية في المنطقة، وأن الديمقراطية ليست صندوق انتخاب ونسب أصوات، وعدد نواب فقط، إنما منظومة متكاملة من القيم والمبادئ التي تحترم التنوع، والتعدد في المجتمع، وقادرة على تأسيس عيش مشترك متماسك وواحد.
-أما تركيا الحالية التي طبل البعض لها، وزَمَرَ، فهي كوكبان مختلفان كما قال الصحفي التركي (أورهان كمال جنكيز) وهي الخطورة التي يمثلها مشروع أردوغان، وانكشارييه في المنطقة، وعلى تركيا نفسها، ما لم يعيدوا القراءة الجيدة للأحداث، وإن كنت لا أعتقد أن هؤلاء قادرون على فعل ذلك. لننتظر ونرى!!!.