إلى متى سنتحملُ وِزرَ السياسات الأميركية؟ هذا التساؤل بات طاغياً في الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية، بل هناك من يجزم بأن الولايات المتحدة تعمَّدت بثَّ صور الأفغان اللاهثين للهروبِ بالطائرات الأميركية في مطارِ كابول لكي يحظى «أفغانها» بحجمٍ من التعاطف الإنساني فيسهل على الحكومات الأوروبية تمريرَ فكرةِ استقبالهم كلاجئين، وما يعزِّز هذه الفكرة أن إحدى المدن الفرنسية الصغيرة التي استقبلت خمسَاً وثلاثين عائلة كانت قد أعدَّت العدة لذلك منذُ أسبوعين، هذا يعني أن هناك تنسيقاً مسبقاً حول هذا الأمر، وإن كانت الدول الأوروبية الغنية قد استقبلت الدفعة الأولى من حصّتها يبقى السؤال المطروح: ما حصة الولايات المتحدة منها؟!
هكذا أثبت الحدث الأفغاني من جديد حالَ الترهّل السياسي الذي تعيشهُ أوروبا بشكلٍ عام وفرنسا بشكلٍ خاص، وما زال المعنيون بالشأن الأفغاني يستعيدون تصريحَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عشيةَ سيطرة طالبان على أفغانستان والذي طالب فيه بالحفاظ على القيم الديمقراطية التي تم ارساؤها في البلاد ويتساءلون: أينَ مستشارو الرئيس من تصريحات كهذه؟! هل حقاً هناك قيم ديمقراطية ورئيس الدولة صمد نصفَ ساعة، أين ناخبوهِ؟ إما أنه يجهل حقيقةَ الوضعِ في أفغانستان وتلكَ مصيبة وأما أنه يحاول تجميل الصورة بالحديث عن قيمٍ أرساها الاحتلال فالمصيبة أكبر.
تحدث ماكرون عن اجتياح طالبان لأفغانستان! هل حقاً إن ما فعلته طالبان التي هي من حملة الجنسية الأفغانية كان اجتياحاً، إذاً ماذا نسمي ما فعله الناتو في ليبيا والشمال السوري؟
وحدها مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة وصَّفت الحال بالكثير من الشجاعة بعيداً عن الضياع الذي تعيشه السياسة الخارجية الفرنسية، حيث تصدر صفحتها الأولى كاريكاتور يصور نساء أفغانيات بزي البُرقع وقد أعطيت كل منهنَّ اسم لاعب كرة القدم الأرجنتيني ليونيل ميسي المنتقل حديثاً إلى باريس سان جيرمان المملوك للقطريين ورقمه 30، ربما أرادت الصحيفة أن توصلَ إلينا رسالة مختصرة: عذابات أولئكَ النسوة من المال القذر ذاته!
حال الضياع الفرنسي بما يتعلق بالملف الأفغاني قد ينسحِب على الكثيرِ من الدول، ربما كان الأمر مفاجئاً لهم، هل حدثت فعلياً صفقة بين طالبان والأميركيين؟ لكن لا يبدو أن الأميركي سيستفيد من صفقة كهذه أكثر من ضمان الانسحاب الآمن، هل انتصرت طالبان فعلياً؟ لكنها بواقع الأمر لا تتكلم بلهجةِ المنتصر تحديداً بما يتعلق بمستقبل البلاد، هنا دعونا نصل لقاسمٍ مشترك بين النصر واللا نصر لنضع سيناريوهات لأفغانستان من دون الاحتلال الأميركي:
أولاً: دول الجوار
حتى الآن لا يبدو المحيط الأفغاني قلقاً مما يجري، فالدولة التي لا تطل على أي حدود بحرية وكانت ولا تزال مصدر رعب ومضرب مثل في القضايا المتعلقة بالإرهاب يبدو كأن فيها شيئاً قد تغير، هذا الشيء يتعلق بحركة طالبان نفسها، هل كانت الحركة إرهابية وبدأت شيئاً فشيئاً تلبسُ قشرةَ الحضارة؟ وبالتالي الولوج بالحدِّ الأدنى من الانفتاح لكي تكون مقبولة من المجتمع الدولي؟
هذا الأمر يبدو وارداً وما يعزِّز نقاط قوة هذا التوقع أن الحركة تتمتع بمزايا مهمة، هي أولاً حركة أفغانية صرفة وليس هناك ما يعيبها، والأهم أن مفهوم الجهاد بمعناه التوسعي يبدو خارجَ أدبياتها، فالحركة لم يشهد لها مطلقاً مبايعة إحدى الحركات الإرهابية الشهيرة ولم تعترف بالدولة الإسلامية في العراق والشام، حتى فكرة إقامة دولة بمرجعية إسلامية أياً كانت مسمياتها فهي بالإطار العام قد لا تخرج عن الكثير من الدول الموجودة في الوقتِ الحالي، لكن هل هذا يعني بأن الحرب قد انتهت؟
ترى الكثير من الدراسات أن صمود طالبان كل هذا الوقت، في وجه الناتو، لم يكن بسبب قوتها الذاتية بقدرِ ماكان سببه دعم المحيط لها، كلٌّ حسبَ طموحاته، تحديداً روسيا والصين وإيران، فهل أن هذا الدعم سيكتمل بعد انكسار الأميركي؟
الواقع يقول إن العدو الموحد يوجه الدعم ضده بدقة، لكن عندما يصبح هناك أكثر من هدفٍ في أفغانستان، قد يتشرذم هذا الدعم، فطالبان لا يبدو أنها تسيطر على كامل الأراضي الأفغانية، ولعل العقدة الأهم هي «وادي بانشير» الواقع شمال شرق كابول، حيث أعلن كل من نائب الرئيس السابق أمر اللـه صالح وأحمد مسعود، نجل أحمد شاه مسعود المدعوم إيرانياً والذي قُتل على يد تنظيم القاعدة في العام 2001، المقاومة ضد طالبان.
مبدئياً لا أحد يعرف إلى أي حد ستلقى دعوات الرجلين آذاناً مصغية لمدهم بالعتاد والمال، تحديداً أن مسعود لم يطلب هذا العون من إيران بل طلبهُ من الغرب تحديداً مشدداً على فكرة الحفاظ على النجاحات الديمقراطية، هل إن فهم الرجل للسياسة يوازي فهم ماكرون للملف الأفغاني؟ ربما هي كذلك، كيف لا وهو مأخوذ بقذرٍ كـ«بيرنارد ليفي»! وقد تكون رسالة غير مباشرة أرادَ من خلالها أن يقول إنهُ جاهز ليحارب تحت أي راية؟ لكن قد يكون هناك احتمال أخير تحديداً أن الرجل وحسبَ من التقوه لايتمتع بأي كاريزما ويعيش على إرثِ والده، أي إنها إثبات وجود ليكون جزءاً من الحل السياسي!
ثانياً: أفغانستان وأفغنة الحل في سورية
مبدئياً حُكي عن هذا الطرح بكثرةٍ في الأيام السابقة والفكرة بسيطة: إعادة تلميع المجاهدين والإرهابيين تمهيداً لزجِّهم في الحلول السياسية ليكونوا وديعة أميركية جاهزة لتفجير الحلول والسلم متى تشأ؟
لعل من يطرح الفكرة يتجاهل بأن الولايات المتحدة تقوم بهذا الأمر في الملف السوري منذ الظهور الأول للإرهابي أبي محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة الإرهابية على تلفزيون آل ثاني في قطر في العام 2015. حتى بعض الدول العربية التي ذاقت ما ذاقته من إرهاب الإخوان المجرمين ولديها قوانين تجرِّمهم وتعتبرهم منظمة إرهابية، تراها في سورية تصمتُ عن إجرامهم وتعتبرهم «منصة» من منصات المعارضات السورية!
أكثر من ذلك فإن دفاع الولايات المتحدة المستميت عن تنظيم القاعدة ومحاولة الصراع مع الوقت لتسويقهم كمعتدلين يمكن أن يكونوا جزءاً من العملية السياسية لم يتوقف، هناك حتى الآن من يحمِّل الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مسؤولية تمريرِ القرار رقم 2199 لسنة 2015 في مجلس الأمن والذي اعتبر الحركة فرعاً من تنظيمِ القاعدة.
لكن بالمطلق تبدو هذه الخطوة صراعاً مع الطواحين، فالولايات المتحدة تعي أن ما يميز متشددي سورية عن أفغانستان أن المقاتلين في سورية نصفهم من غير السوريين، وفي الوقت ذاته لا يسيطر هؤلاء على تلك المساحات التي يمكِن أن يُبنى عليها طموح إمارة «سورية الإسلامية»، لكن السؤال المطروح اليوم يبدو في الاتجاه المعاكس: ماذا لو تمت الاستفادة من التجربة الأفغانية باحتواء اللاهثين لحكمِ الشريعة الإسلامية؟
تبدو فكرة أفغانستان الإسلامية تُسيل لُعاب الكثير من الدول بل قد تكون الفكرة قيد المتابعة، هل يمكن لأفغانستان أن تكون أرضاً يُرحَّل إليها الراغبون في العيشِ بكنف دولةٍ يحكمها شرع الله؟ قد تبدو الفكرة اليوم مثار سخرية وقد تبدو غير قابلة للتطبيق، لكن هناك فعلياً من يأخذ الفكرة على محمل الجدَّ تحديداً في الرقعةِ الشرق الأوسطية، وبمعنى أصح: شيءٌ ما يجري الإعداد له لتكون سلة الحلول في المنطقة كاملة بالحدِّ الأدنى، دققوا فقط في الصمت الروسي والهدوء الصيني لتعلموا بأن وراء ما يجري في أفغانستان أكبرَ من عمامةٍ وبندقية للإيجار!