كان من الجائز الاستنتاج، قبل التطورات التي أعقبت زيارة رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض لدمشق، القول إن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أراد العودة إلى قراءة التاريخ الممتد لعشرة آلاف عام بين بلاد الرافدين وبلاد الشام في ظل ظرف عصيب من النوع الذي يفرض على الممسك بالقرار الأخذ بحمولات هذا الأخير، الأمر الذي لم يكن حاضراً عنده بالتأكيد عندما أطلقت القمة الثلاثية في بغداد التي جمعت الأخيرة جنباً إلى جنب القاهرة وعمان أواخر شهر حزيران الماضي، الإعلان رسمياً عن مشروع «الشام الجديد» الذي غابت عنه دمشق بكل ما تحمله من رمزية في تلك التسمية.
ففي أعقاب زيارة الفياض لدمشق ولقائه الرئيس بشار الأسد في الـ 16 من آب الجاري، راجت تقارير تقول إن الغرض من تلك الزيارة كان توجيه الدعوة لحضور قمة دول الجوار الست، الأمر الذي نفته دمشق، والتي تقرر توسيع حضورها لتشمل السعودية وقطر ومصر والولايات المتحدة وبريطانيا، في الـ 28 من آب الجاري، لكن في اليوم ذاته لتلك الزيارة أصدرت وزارة الخارجية العراقية بياناً أكدت فيه أنها غير معنية بتلك الدعوة، ليصدر الفياض بعد ساعات من ذلك البيان بياناً آخر خاصاً قال فيه إنه نقل للرئيس الأسد رسالة الكاظمي التوضيحية في شأن «عدم توجيه دعوة الحضور للجانب السوري» والذي «لا يعبر عن تجاهل العراق للحكومة السورية الشقيقة ومكانتها الراسخة» مع الإشارة إلى أن الفياض كان قد أبدى، في بيان، استغرابه من بيان الخارجية العراقية الذي وصفه بـ«المتسرع الذي انساق وراء تسريبات من جهات إعلامية غير مطلعة»، على حين أكدت مصادر لموقع «روسيا اليوم» أن السبب في تغير الموقف العراقي مرده إلى ضغوط فرنسية قادها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بنفسه، مع توارٍ للولايات المتحدة وراء هذا «الهجوم» الفرنسي الذي كفاها شر القتال.
ما توضحه الصورة السابقة أمر مهم يتمثل في حال من الانقسام السياسي كان قد أبداه السطح السياسي الممسك بدفة القرار في بغداد تجاه حدث إقليمي مفصلي يمكن وضعه في سياق اتخاذ الجغرافيا والتاريخ أساساً لفهم الصراع الدائر في المنطقة، وأيضاً أساساً لاجتراح الحلول الممكنة لذلك الصراع، الأمر الذي تكشف بوضوح عبر السجال الذي يرصده بيان الخارجية العراقية والبيان الذي أصدره فالح الفياض في أعقابه، والأمر، أي ذلك الانقسام، ليس استثنائياً، أو أنه يجيء نتيجة لمواقف متباينة تجاه دمشق فحسب، بل تعززه حال من الانقسام أيضاً تجاه قضايا أخرى لربما كانت أكثر حساسية، من نوع العلاقة مع طهران، وكذا الموقف من الوجود العسكري الأميركي في العراق حيث من شأن التلونات الأخيرة التي اتخذها إبان جولة الحوار الإستراتيجي الرابعة المنعقدة شهر تموز الماضي، أن تعطي للانقسام زخماً انشطارياً جديداً في بنيان الدولة العراقية قياساً لتباين النظرة، وفهم السياقات، التي قادت إليها تلك الجولة، ولربما كانت تلك الصورة هي التي قادت إلى استثناء دمشق من حضور القمة، مع الإشارة إلى أن واقعاً كهذا من الصعب عليه قيادة تحولات، كتلك التي تطمح إليها بغداد من عقد القمة، قادرة على رسم ملامح واضحة لمستقبل المنطقة الذي يقتضي بالدرجة الأولى وجود تناغم كبير بين «عضلات» الجسد إذا ما أراد النجاح في الوثب، أو كان طموحه يرمي إلى تحقيق أرقام قياسية فيه.
لا ننكر على القيادة العراقية احتواءها على نخب تمتلك الرؤى، وكذلك البصيرة النافذة، تجاه الاستعصاء المزمن الذي تعيشه المنطقة برمتها، بل أيضاً امتلاكها القدرة على رسم ملامح بخطوط عريضة للخروج من ذلك الاستعصاء مما تساعده بها معطيات عديدة، ولربما كان على رأس هؤلاء رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، لكن يجب الاعتراف أيضاً بأن تلك الحكومة تحوي العديد من تلك النخب ممن يمكن توصيفهم بأنهم نتاج لـ«الزرع» الأميركي البادئ ربيع العام 2003 والذي تعتبر «الجلبية السياسية» ثمرته الأكبر التي عمل على إنضاجها، وهذا لربما كان السبب الأكبر الذي يحول دون مضيها، أي مضي تلك الحكومة، في مسار فاعل، ومنفعل في الآن ذاته، بما يجري حوله، إذ لطالما أثبتت رياح «الربيع العربي» بعد عشرة أعوام على هبوبها حقيقتين راسختين، أولاهما سقوط مشروع الدولة القطرية التي عجزت عن بناء حال من الاستقلالية كاملة لكل دولة على حدة، وثانيهما هو أن مصائرنا مرتهنة ببعضنا بعضٍاً، وما يجري في تونس أو مصر والجزائر، ستكون له تداعياته، بالتأكيد، في سورية ولبنان والعراق.
الآن أما وقد استثنيت دمشق من قمة الجوار العراقي بفعل الانقسام الداخلي الذي تعززه أجندة خارجية، وللاستناء هنا فعل شبيه بفعل الإلغاء لحدوث أي اختراق وازن يمكن أن يحدد ملامح مستقبل المنطقة، فقد بات من نافل القول أن الأزمة السورية، وتموضع دمشق الإقليمي والدولي، سوف تكونان بيضة القبان في أي نظام يمكن أن ترسمهما هذه الثنائية منفردة أو مجتمعة، وما يمكن التنبؤ به لقمة بغداد هو أن رهانها الأكبر بات نابعاً من حالة احتياج داخلية للكاظمي الطامح إلى تمديد رئاسته للوزارة في بغداد لولاية جديدة يمكن أن تكرسها الانتخابات المبكرة التي نقف على بعد شهرين منها، أما الرهان على حدوث اختراقات في جدارات الجليد القائمة بين العديد من ثنائياتها، فذاك أمر، ولو ارتقى مستوى التمثيل لأعلى المستويات، سيكون ذا أثر محدود، أو هو يقتصر على كسر الحواحز النفسية التي راكمتها الافتراقات في الرؤى والمصالح، بل حتى هذي الأخيرة ستكون بأبعاد تقف عند حدود ضيقة للغاية، ومن الصعب، أيا تكن البرامج والقدرات، تخيل خروج تسوية دائمة في المنطقة، التي هي أشبه بسباق حواجز تختلف ارتفاعاتها من حاجز لآخر، بينما تجاهل «حاجز دمشق» الذي هو الأعلى من بين كل تلك الحواجز، ومحاولة الهروب منه ستعني تلقائياً إلغاء نتيجة السباق.