من دفتر الوطن

الهروب إلى الطبيعة

| عصام داري

اشتياق لا حدود له للطبيعة البكر التي غادرتنا وغدرنا بها واغتالتها الأيادي السوداء، والقلوب الأكثر سواداً.
عندما أتجول كل صباح في دول العالم من أقصى مشرقه، إلى أقصى مغربه، أتحسر على الإنسان الذي ما عرف إلا رمال الصحارى ويباس النبات وتصحر الفكر وخواء القلوب.
جولاتي الصباحية والمسائية عبر محطات التلفزة التي تبث أفلاماً عن طبيعة بلاد العالم، من بحيرات وغابات وسهول بديعة، فشلالات وأنهار، أنسى وجعي قليلاً وأرحل عبر تلك المحطات، أتخيل أنني أمتلك بساط الريح ليحملني إلى تلك الجنات الرائعات.
كل يوم أطوف على كوكبنا وأنا في مكاني، فأخطف مشهداً ساحراً هنا، ومنظراً خلاباً هناك، ومن ثم أعود إلى صحرائي خالي الوفاض، إلا من سحر داعب مخيلتي ونقلني مسافات شاسعة كي أمتع نفسي ببديع حسن كوكبنا الذي لا نعرف عنه إلا القليل.
لكن رحلاتي اليومية لا تقتصر على روائع كوكبنا الأزرق، بل أبحث في أرحام الأغنيات عن كلمات نظمها شاعر حساس ولحنها موسيقار مبدع، ونشرتها حنجرة ذهبية نادراً ما يجود بها الدهر.
وسأبدأ مع السيدة أم كلثوم التي غنت من كلمات بيرم التونسي وألحان رياض السنباطي، وأدعوكم إلى التمعن في الكلمات التي وصف فيها بيرم التونسي نهر النيل، هي أغنية «شمس الأصيل» التي يقول مطلعها:
شمس الأصيل.. دهبت خوص النخيل يا نيل
تحفة.. ومتصورة في صفحتك يا جميل..
طبعاً المقصود هنا نهر النيل، بعد ذلك تنساب الكلمات كانسياب مياه النيل فيقول:
والناي على الشط غنى والقدود بتميل على هبوب الهوا لما يمر عليل يا نيل..
صورة رائعة فيها قدود الصبايا اللواتي يزرعن «كورنيش» النيل ذهاباً وإيابا، على حين يرسل الناي أنغامه على هبوب النسائم.
أما شاعر الأغنية الكبير مأمون الشناوي فله الكثير من الأغاني التي يتلاعب فيها بالكلمات ليرسم صوراً بديعة للطبيعة، ولعل أغنية «أول همسة» التي لحنها وغناها الموسيقار فريد الأطرش من أجمل ما ألف الشناوي، فهو يصف اللحظة التي قالها الحبيب لحبيبته لأول مرة فتأملوا:
كان القدر.. راضي علينا حنون.. كان القمر.. جماله يسبي العيون..
كان الشجر.. غصون تعانق غصوناً.. والزهر يبعت أنفاسه مع النسيم بعد ما باسه..
ومأمون الشناوي نفسه هو الذي نظم أغنية الربيع التي تناول فيها كل فصول السنة بشكل بارع وجميل.
كما غنى وديع الصافي للطبيعة الجميلة، فكانت أغنيته «جنات عا مد النظر» والتي يقول مطلعها:
جنات عا مد النــظر ما بينشبع منها نظر وطــيور عا نغماتها بينام وبيصحى القمر
بعد ذلك يغني للوديان والأنهار والأزهار والمروج والجبال، ففي قصيدة واحدة كتبها عبد الجليل وهبة يختصر الشاعر الكثير من عناصر الطبيعة الجميلة التي افتقدناها منذ سنوات طويلة، فصار مشهد النهر حلماً بعيد المنال، وأصبح مجرد سيران إلى أحضان الطبيعة شيئاً من المحال، كالغول والعنقاء والخل الوفي.
كثيرة هي الأشعار والأغاني والأفلام التي تنقل الطبيعة إلى بيوتنا، لكنها رحلة عمادها السراب والخيال والتمني، فهل تستعاد أيامنا.. طبيعتنا.. أرواحنا المتعبة؟.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن