ثقافة وفن

الحب العذري في شعر جميل بثينة

| د. رحيم هادي الشمخي

هو جميل بن عبد اللـه بن معمر العذري، نسبة إلى قبيلة عذرة التي اشتهرت بالحب العفيف، فنسب إليها، فيُقال (حب عذري)، ومنذ الجاهلية حتى أيام جميل كانت تنزل بادية في (وادي بغيض) من وادي القرى شمال المدينة في الحجاز، وفي هذه البادية نشأ (جميل)، وأحبّ ابنة عمه (بثينة)، ولم يتزوجها لأن التقاليد البدوية يومئذ كانت تحول دون ذلك، وكان يحب قبلها أختها الكبرى (أم الجسور) ولكن حدث أن التقى (بثينة) وهما يسقيان قطعانهما على مورد، فاختلفا على السقي، فسبّها وسبّته، وذلك قوله:

وأول ما قاد المودّة بيننا

بوادٍ بغيض يا بثين سباب

وقد بقي على الوفاء لها حتى مات، وتدلّ أخباره وأشعاره على أنه لقي في حبّها كثيراً من العذابات، ولاسيما بعد أن زُوّجت من غيره، ونفي عن القبيلة فلجأ إلى مصر أيام كان يتولّاها (عبد العزيز ابن مروان)، وفي مصر توفي سنة 82ه، ولما بلغها نعيه حزنت عليه وكان فيما رثته به:

صدع النعي، وما كنى بجميل
وثوى بمصر ثواء غير قفول
قومي بثينة فاندبي بعويل
وابكي خليلك قبل كلّ خليل

وليس لجميل شعر نسيب إلا في بثينة، وكذلك كان شعراء البادية في عصره، مثل تلميذه (كثير عزّة) ومجنون ليلى، ويحسن هنا أن نبين أن صاحب النسيب يتعلق بواحدة في حبّه وشعره، وهذا جدير أن يسمى شعر الحب أو النسب، وصاحبه يذكر منسوباً لحبيبته ولا ينسب إلى أبيه، كما تقدّم في أسماء هؤلاء الشعراء الثلاثة، وهناك شعراء معاصرون تعلّق كل منهم بنساء كثيرات وتغزّل بكل منهن حين مالت إليها نفسه شهوة وإعجاباً، ومنهم (عمر بن أبي ربيعة، الأحوص، العرجي، وعبد اللـه بن قيس الرقيات)، وكانوا يسكنون مدن الحجاز، كالمدينة ومكة والطائف، وشعر هؤلاء جدير أن يسمى (الغزل)، وقلّما يخلو هو وأصحابه من عبث ومجون، والفرق بين الطائفتين يعود إلى اختلاف المزاج والبيئة.

لكن يؤخذ على (جميل بثينة) أنه -مع ثراء أهله وقوّة بنيته وجماله اللامع- كان معنياً بشؤون حبّه، غير مشغول بغزوات الجهاد الذي كان يومئذ عاماً، يتطوّع له الشبان، وإلى هذا يشير بقوله في هذه الأبيات:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد

وشعر جميل يميل إلى السهولة والرصانة، كما في النموذج الذي أقدّمه هنا:

ألا ليت أيام الصفا، جديد
ودهراً تولى يا بثين يعود
إذا قلتُ: ما بي يا بثينة قاتلي
من الحب قالت: ثابت ويزيد
وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به
مع الناس، قالت: ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالباً
ولا حبّها فيما يبيد يبيدُ
وقلت لها: بيني وبينك فاعلمي
من اللـه ميثاق له وعهود

هذا هو الشاعر العربي العذري (جميل بثينة) الذي كان مثالاً للحب العفيف بين قومه وأهله فالعالم، كل العالم تغنى بملحمته عن (بثينة) التي عبّرت عن واقع الحب الصادق الشريف، فكان شعره درساً لكل المحبّين والعاشقين:

لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن