مجموعة من البشر، وجدت بحكم ضرورة اتساق العالم البشري، تقود معارف الأديان، اختصت بالجوهر، أي باللامرئي، تجلد الناس إلى جادات الصواب أو الخطيئة، وتسيطر عليها جزئياً أو كلياً، وتستلب منها ما تقدر عليه من مادة أو طاقة، لذلك يجمع المختصون أن الكهانة من أرفع أصناف المعارف الغيبية، وبدقة أكبر أستطيع القول: إن الكهان قادرون على تغيير اتجاهات الأحقاد، وفي الوقت ذاته قادرون على الاستثمار فيها.
وتزعم أساطير العرب في أصلها أن لكل كاهن أو كاهنة جنياً، يسمونه رئيّا، أي «تابع»، يمنحه تعويذة ترفع من شأنه أمام الناس، فالكهان والكواهن في تأديتهم إلى الأناسي يزعمون أن قوى خفية تمنحهم كما ذكرت العلم والمعرفة، وفي الوقت ذاته، نجدهم يستخدمون لغة مُسجّعة غامضة الألفاظ رمزية التعبير، معماة، مموهة المعاني، لنرى مريديهم تأخذهم الدهشة، ويؤمنون بأن ما يكهن لهم به إن هو إلا وحيٌ وإلهام، لأنهم ينظرون إلى الأعلى، على اعتبار أن كل المثل العليا مقدسة، وهذا ليس مقصوراً على الكهان العرب، لأننا نراه في كلام كهان سائر الأمم، من عرافين ورجال دين، كل هؤلاء أوجدتهم ظروف الحياة التي توافر فيها العلم والمعرفة والجهل والأديان، وكان لا بد من وجود الكهنة والكهان الذين يستمدون قواهم من مريديهم، فيتقوّون بهم، ومريدوهم يضعفون.
وكهان العرب يبدؤون قراءاتهم بالأيمان، فيقسمون بمظاهر الطبيعة، كالصبح والمساء والليل، والأرض والسماء والبرق والماء، وكل يختار ما يوافق سَجعاته، فَسطيح كاهن حلف بالشفق، والغسق، والفلق إذا استحق، بأن ما أخبر به على حق. وشقٌّ كاهن حلف برب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض، وأن ما أنبأ به لحق ما فيه أمض. وطُريفة اليمنية كاهنة حلفت بالنور والظلماء، والأرض والسماء. وحلفت زبراء القضاعية بالليل الغاسق واللوح الخافق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق. وسلمى الهمدانية حلفت بالفجر والوميض والشفق كالإحريض، والقلة والحضيض، وهذه الأيمان التي كانوا يستهلون بها نبوءاتهم لم يكن لهم بد منها تقريراً لكلامهم في الأذهان، وقد كان كهان العرب وكاهناتهم كثيرين قبل الإسلام، ففي كل قبيلة كاهن أو كاهنة، غير أن المشهورين الذين نقلت إلينا أخبارهم وأساطيرهم كانوا قلةً، أعظمهم في الرجال، الكاهن شِق والكاهن سطيح.
يبدو أن الكواهن أكثر عدداً من الكهان، لأن نفوس النساء ألطف، وحسَّهن في تقصي الأخبار أدق، وربما قابليتهن للانسلاخ إلى المَلكية التي أشار إليها ابن خلدون أقوى من قابلية الرجال، بدليل ما ذكره الرواة في شأن مرثد بن عبد كلال، فقد رأى في نومه رؤيا أخافته، وأذعرته، فاتجه إلى الكهانة القادمة من التكهن، وتراكم المعارف تطلق على الإنسان كهيناً صفة الكهين والدينية منها يغدو بها، ولم يخبرنا الرواة عبر التاريخ ما إذا كان الجان الذين يتبعون الكهان ذكوراً، أو الذين يتبعون الإناث إناثاً، وهل كان يكتفي كل جنس بجنسه، فتألف الجان الذكور الكاهنات، والجنيات يألفهن الكهان الرجال، وقال أبو النجم العجلي مفتخراً بشاعريته وشيطانه الموحي إليه، لاعتقاد العرب أيضاً أن لكل شاعر شيطاناً يلقي إليه الشعر، فيلقيه حاله حال الكهانة والكهان: «إني وكلّ شاعرٍ من البشر – شيطانه أنثى وشيطاني ذكر» ومن أشهر الكواهن العربيات قبل الإسلام طريفة من اليمن، وزبراء القضاعية من الجزيرة العربية، وعفيراء الحميرية، وسلمى الهمدانية، وفاطمة بنت مر الخثعمية.
ومع ظهور الإسلام، عرفت سُجاح بنت الحارث بن سويد، التي تزوجت مسيلمة النبي الملقب بالكذاب، فقد كهنت قبل إسلامها وتنبأت، وهي التي قال فيها عطارد بن حاجب: «أمست نبيتنا أنثى نطيف بها – وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا».
وتباينت مذاهب العرب تجاه العلوم الغيبية، فمنهم من آمن، ومنهم من قال: إن القليل يصح منها، إن هي إلا موافقات، إن الكثير باطل، ومنهم من أنكرها كل الإنكار، وكذّب القائلين بها، ومن ذلك نجد أن للماضي أثراً في حياتنا أكثر مما للحاضر، لأن التراث الإنساني تحتوي القبور من أربابه أضعاف ما تحتوي الدور، والإنسان لا يحيا بسليقته وحدها، كما يعيش الحيوان، بل بقدر أقل أو أكثر من اختيار نسبي يتحكم فيه عقله، ويهديه سواء السبيل، والعقل يلتمس العبرة من الماضي القريب والأبعد والبعيد، والاتصال الدائم بين الحاضر والماضي هو الذي يدفع الإنسانية إلى مورها في تطور مستمر، لا يستطيع أحد أن يقدر مداه، أو يحكم إلى أيّ غاية ينتهي.