ثمة من يحاول، سواء على مستوى التنظيمات الإرهابية أم الدول، استغلال المتغيرات الأخيرة في المنطقة، خاصة ما جرى في أفغانستان من انسحاب مذل للقوات الأميركية، ووصول حركة طالبان إلى سدة الحكم هناك، من أجل فرض واقع جديد، ورسم خرائط ارتدادية لما جرى في أفغانستان على الجغرافيا السورية، مستغلين نشوة «انتصار» التشدد والإرهاب، وهزيمة العنجهية الأميركية، لتسويق تلك «المعادلة» في إدلب حيث يسيطر تنظيم «جبهة النصرة» فرع القاعدة الإرهابي، بغطاء ودعم من الاحتلال التركي.
ما أن تداعت إلى مسامع «جبهة النصرة» أنباء سيطرة طالبان على أفغانستان، حتى أقيمت الاحتفالات، وخرجت التهليلات والتبريكات من مآذن جوامعها في إدلب، فرحاً بانتصار «إخوة العقيدة والإرهاب»، وخلع زعيمها أبو محمد الجولاني «طقم» الاعتدال الذي ما كاد يرتديه كجواز سفر للعبور به إلى فضاء الإعلام الأميركي حينما التقى في شهر شباط الماضي الصحفي الأميركي مارتن سميث في برنامج «FRONTLINE» الأميركي المتخصص بالأفلام الوثائقية الاستقصائية، لتنطبق فيه جملة من الأمثلة التي تؤكد حقيقة أسه، بعيداً عن المساحيق التي قدمها له الأميركي والنظام التركي، ويثبت أن الطبع غلب التطبع، وأن أصل الحكاية برمتها «عنزة ولو طارت».
عودة الإرهاب إلى مراكز متقدمة في سلم المشهد الدولي بـ«روح المنتصر» جعل الجولاني وتنظيمه «جبهة النصرة» يتناسون الأسباب التي دفعت بهم إلى إعلان فك الارتباط عن «القاعدة»، حينما برر الجولاني ذاك الطلاق عام 2016 في ظهوره العلني الأول بالقول: «نزولا عند رغبة أهل الشام في دفع الذرائع التي يتذرع بها المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا وروسيا في قصفهم وتشريدهم عامة المسلمين في الشام بحجة استهداف جبهة النصرة التابعة لتنظيم قاعدة الجهاد، فقد قررنا إلغاء العمل باسم جبهة النصرة وإعادة تشكيل جماعة جديدة ضمن جبهة عمل تحمل اسم جبهة فتح الشام»، وصار اسمها لاحقاً «هيئة تحرير الشام» لتكون تبريكاته بانتصار طالبان بمنزلة أوراق اعتماد جديدة للعودة إلى عباءة «القاعدة، بل إن بعض متزعمي «الجبهة» ذهب ابعد من ذلك حين اعتبر أحد «شرعيي» جبهة النصرة المدعو مظهر السويس أن تنظيمه الإرهابي نهل الكثير من الدروس من حركة طالبان وأن «المعادلة تغيرت الآن»، ليدعي زميلهم التونسي الملقب بـ«الإدريسي» أن «ما بعد تحرير أفغانستان ليس كما قبله، طالبان قررت إعادة رسم سياسة العالم من جديد».
ملامح وصول تداعيات الانسحاب الأميركي من أفغانستان إلى سورية ليس بالمستبعد خاصة مع التسريبات وما يتداوله ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي من رسائل يقوم بإرسالها مسلحون من «طالبان إلى الإرهابيين في إدلب، ومنها قيام أحد مسلحي الحركة والذي عرّف عن نفسه بأنه «أبو مصعب فوزان» بإرسال رسالة صوتية مسجّلة، وعد فيها بمجيء تنظيم طالبان إلى سورية، إضافة إلى إمكانية استغلال «التنظيم» سطوة النظام التركي على مناطق في إدلب، واتخاذه مطية وجسر عبور للإرهابيين من «الحركة» للدخول إلى إدلب، بإغراءات اقتصادية في أفغانستان، وهو ما عبر عنه المتحدث باسم «الحركة» سهيل شاهين بالقول: «إن الحركة تعول على التعاون مع تركيا في مجالات الرعاية الصحية والتعليم وإعادة إعمار البنى التحتية التي تعرضت للدمار جراء الحرب»، الأمر الذي تلقفه رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان مرحباً بما اعتبرها مواقف معتدلة من «الحركة»، ومجدداً استعداده للقاء قادتها في تركيا.
جميع تلك المؤشرات المتسارعة، ومحاولات العبث بأسس الجغرافيا السورية، لم تكن بعيدة عن عين الجيش العربي السوري والحليف الروسي، اللذين سارعا إلى إرسال رسائل بالنار، إلى جميع الواهمين بإمكانية تعويم «النصرة» وإضفاء الشرعية والاعتدال عليها، من خلال استهداف مواقع «جبهة النصرة» في منطقة «خفض التصعيد» بسلسلة من الغارات والضربات الموجعة والمكثفة على مدار أيام، رسائل تؤكد أن «النصرة» تنظيم إرهابي كان وسيبقى، والقضاء عليه ضرورة وواجب دولي، إضافة إلى أنها رسائل تذكير للنظام التركي بضرورة الالتزام بتنفيذ جميع اتفاقات «موسكو» و«سوتشي» ومخرجات مسار «أستانا»، وبألا تأخذه الحمية وحلاوة العروض الاقتصادية لـطالبان من أجل النكوص بتلك الاتفاقيات، واللعب على الوقت، أو التحول إلى قاعدة وجسر لمسلحي طالبان للعبور إلى إدلب، والعودة إلى المربع الأول كما فعلت في بداية الحرب على سورية.
يرى الخبير في قضايا الإرهاب غيدو شتاينبيرغ أن ما يسمى الجهاديون في سورية «سيستمدون على الأقل بعض الإلهام من الأحداث» في أفغانستان، ويضيف: «سيوضحون لأنصارهم أنهم إذا صمدوا لفترة كافية، ستكون لديهم فرصة للانتصار على الأميركيين والأوروبيين»، إلا أن الواقع والحقيقة تقولان بأن ذاك الإلهام قد يتحول إلى وبال على الإرهابيين في سورية، حينما يدفع بهم إلى محاولة التمدد أكثر والخروج من جحورهم، ويصبح حالهم حال الأفعى التي تحاول أن تطل برأسها خارج جحرها ليكون صيادها بالانتظار.