إبداع لا تقتلعه الرياح
حسن م. يوسف :
«كلمة «شكراً سورية» تختصر كل شيء».
هكذا اختتم أرمش نالبنديان مطران الأرمن الأرثوذكس كلمته في نشرة الحفل الباهر الذي أتحفتنا به الفرقة السمفونية الوطنية وكورال الحجرة التابع للمعهد العالي للموسيقا، بقيادة المايسترو المبدع ميساك باغبودريان، لأعمال الموسيقار العبقري الأرمني كوميداس (1869-1935) الذي تم إحياؤه في التاسع والعشرين من الشهر الماضي، صحيح أن الحفل فاتني إلا أن إعادته مساء الخميس الماضي كانت من حسن حظي إذ مكنتني من تحقيق حلم يزيد عمره على خمسة وثلاثين عاماً بحضور حفل حي للموسيقار الأرمني الفذ كوميداس الذي كان مجمعاً ثقافياً في رجل، فهو لم يكتف بجمع وتدوين وتنقيح تراث شعبه وحسب، بل تمثله وأغناه بكثير من التحف الموسيقية الكلاسيكية التي تنطق لغة العالم.
كان كوميداس مبدعاً كونياً، فهو لم ينكفئ على موسيقاه الوطنية ويقصر بحثه واهتمامه عليها، بل درس موسيقا شعوب المنطقة وكانت إطروحة شهادة الدكتوراه التي نالها من ألمانيا حول الموسيقا الكردية التي «جمعها ونوطها ودرس مقاماتها وأنقذها من الضياع». إلا أن كوميداس رغم اطِّلاعه على أحدث التجارب الموسيقية في العالم، ظل وطنياً أرمنياً في كل ما أبدع، حتى ليمكن القول إن تاريخ البشرية لم يعرف فناناً أو كاتباً ارتبط اسمه بشعبه أكثر من كوميداس. إذ صحَّ فيه قول طاغور: «أريد أن أفتح نوافذي على الجهات الأربع لكل ريح تهب عليَّ، ولكني لن أسمح لأي رياح أن تقتلعني من جذوري».
كان كوميداس يقول: «ابحثوا عن الأغاني الأرمنية على شفاه القرويات في الأماكن البعيدة وفي الجبال العالية» وقد أمضى كوميداس عشرين سنة في جمع وتسجيل وتنويط الأغاني الشعبية الأرمنية، وتمكن من إنقاذ ما يزيد على ثلاثة آلاف واحدة منها. وقد برزت عبقريته في أسلوبه الموسيقي الفريد وتطويعه للقوالب الغربية بما يناسب موسيقاه.
في ثمانينيات القرن الماضي كنت أصغي لأعمال كوميداس للفيولا والأرغن، التي صب فيها هذا العبقري مآسي شعبه ممزوجة بأعمق أحزانه وأعذب ألحانه، وفي تلك الأثناء وصل محام من أقاربي، سألني الرجل عن الموسيقا الحزينة التي أسمعها، فحكيت له أن مؤلف هذه الموسيقا هو راهب أرمني عبقري جن لأنه رأى بأم عينيه أصدقاءه ونخبة قومه تسحق رؤوسهم بالحجارة. ولن أنسى ما حييت كيف أذابت موسيقا كوميداس الثلج المتراكم في وجدان ذلك المحامي وكيف انخرط في نشيج مرير استمر حتى بعد أن أوقفت الموسيقا!
لم يكن كوميداس وحده يبتسم من عليائه في دار الأوبرا يوم الخميس الماضي، كان إلى جانبه مبدع آخر هو الأستاذ صلحي الوادي يبتسم لمبدعي الفرقة السمفونية السورية التي أسسها عام 1993. فتحية لذكراه ولكل الفنانين الذين رفضوا إغراءات الخارج واختاروا البقاء في البلد رغم الظروف القاسية التي يعيشونها، وعلى رأسهم مغنية الأوبرا القديرة سوزان حداد.
فور وصولي إلى البيت كتبت في دفتر ملاحظاتي: «أهم ما يجدر بنا أن نتعلمه من الأرمن هو كيف نحول معاناتنا إلى ضوء وحزننا إلى إبداع».