الآثـار السُّوريـة بين الأصالـة والتزوير الـدوليّ
سَـارة عيسَى :
تكثر الحلول والاقتراحات هذه الفترات من قبل الأمم المتحدة، للتدخل في معالجة مسائل التراث السوري وتخليصها من إرهاب يرجمها بأحجارِ ظلامِه وقبحه، اقتراحاتٌ تبدو كإزاحةِ العتب عن أكتافهم بعد أن وقفوا متفرجين على الدمار طوال 5 سنين، وبعد أن استهلكوا كل شعاراتهم وتصريحاتهم وتنديداتهم وإداناتهم، ليهبّوا الآن بعد الدمار الذي حصل، لإيجاد حلول عملية على الأرض، ولتخليد تراث رائد على مستوى العالم بمجردِ صورٍ وأشعة ليزرية، تنتهي بتصاميم ثلاثية الأبعاد لا قيمة تذكر لها سوى أنها صورٌ لحضارةٍ جاهدوا لتدميرها وإقصائِها عن الوجود.
يقول الدكتور مايكل كرابه، عالم البحث الجنائي الألماني في مجال الآثار لصحيفة (دي تسايت) الألمانية: «مازلتُ أكافحُ لإيجاد قانون يضمن حماية الآثار من التداول في الأسواق، وسنّ قانون جديد يحمي هذه الآثار التي تأتينا من الشرق الأوسط». يتابع الدكتور كرابه: «عندما نجد قطعة ثمينة لدى عائلة سويسرية، لن نتخيّل أبداً أنها حصلت عليها من السقيفة، بالتأكيد اشترتها من تجار أعطوها شهادة منشأ تبدو قانونية».
المشكلة أنه لا يمكن وضع جدول دقيق بأسماء الآثار التي سُرقت من سورية والعراق، أو بالمهربين وتجار آثار الدم. كل شيء يجري بسرية تامة وعبر مافيا منظمة لا تقف عند حدود. ينهبون القطع ويعبرون بها الجمارك حتى تصل ألمانيا.
لدى ألمانيا قانون سُـنّ عام 2007 لحماية الممتلكات الثقافية، باتَ قانوناً قديماً، المُعيب فيه أنه لا يُحاسب سوى على القطع التي يتم بيعها بعد عام 2007، أما ما قبل ذلك فهو معفى من المحاسبة. إذاً، يمكن للتجار أن يأتوا بشهادة منشأ قبل هذا التاريخ، لقطعة يتم بيعها عام 2015.
«هذا القانون هو فضيحة بمعنى الكلمة، ويتسبب بأضرار جسيمة ليس لسمعة ألمانيا فحسب، بل للتراث الإنساني بشكل أساسي». هكذا وصفهُ الدكتور كرابه، فلقد أفلتَ من العقاب تجار آثار دافع عنهم محامون أذكياء، أثبتوا أن موكليهم تاجروا بالآثار قبل نيسان 2007، تاريخ دخول القانون حيّز التنفيذ، فخرجوا من جريمتهم أبرياء أمام المحاكم الألمانية. احتاج الأمر لـ9 ســنواتٍ كي تقوم السلطات القضائية الألمانية بسن قانون جديد يبدأ العمل به عام 2016، تسع سنوات مرت كانت كافية لعبور آلاف القطع إلى ألمانيا.
يقول الدكتور كرابة بحسرة: «بلاد ما بين النهرين هي مهد الحضارات العالمية، هناك اخترعوا الكتابة والرياضيات والفلك، وسوف تلعننا الأجيال القادمة لأننا سمحنا بتدمير هذا التراث الحضاري، وما جرى تدميره في سورية والعراق خلال أربع سنوات، يفوق ما دُّمِر خلال 2000 سنة».
نعم وقف العالم كله بما فيه ألمانيا التي تتغنى بالآثار، وقفوا متفرجين على تدمير حضارة عمرها خمسة آلاف عام، وليتهم فقط تفرجوا، بل شاركوا بجريمة التجارة غير المشروعة، حتى باتت ألمانيا مخزناً للآثار المسروقة، التي تأتيها من تركيا بشكل أساسي عبر مهربين إلى تجار ألمان يبتاعونها بأرخص الأثمان، وباتت ميونيخ أكبر مركز يستورد هذه المسروقات في أوروبا.
من المُجرمُ الحقيقي؟
تبدأ الجريمة من إنسان عادي يُنقبُ عن الآثار، إلى المجموعات الإرهابية، إلى المهربين. لكن المجرم الحقيقي هو التاجر الذي يشتري هذه الآثار، لولا وجوده وإغراءاته لما وجِـدَ الباقون.
هي مجموعة لصوص ومجرمين مرتبطة ببعضها، فبعد سيطرة المجموعات الإرهابية على منطقة ما، يؤجرون مناطق الآثار بالمتر المربع، في حين تتقاضى داعش 20% من التقدير الأولي لسعر ما يجدونه. تجار أتراك وألمان يمدون الإرهابيين بمعلومات تقنية دقيقة عن المناطق التي يجب التنقيب فيها، والآثار التي يمكن أن يجدوها، فيما بعد يشترون هذه الآثار بأسعار بخسة، وعن طريق مهربين مختصين ينقلونها إلى المقر في أوروبا. لتأتي عملية إضفاء الصبغة الشرعية عليها بتزوير شهادة منشأ تعود لما قبل عام 2007 فيصبح كل شيء قانوني.
قدّر علماء آثار أن ما يتم سرقته سنوياً من آثار سورية، يصل إلى 8 مليارات دولار، لكن ما يلحق بهذه الحضارة الإنسانية من ضرر لا يُقدّرُ بثمن.
تقوم ألمانيا الآن بتعديل قانون عام 2007، وهو نسخة متطورة من القانون القديم الذي نشأ عام 1955، لحماية كنوز الفن الألمانية. لقد أثارت المسودة الأولى للقانون الجديد صيف 2015 موجة عارمة من السخط عليه، وحتى المسودة الثالثة المقدمة في أيلول الفائت لم تنل رضا كثيرين، إذ يعطي هذا القانون الأعمال الفنية هوية ألمانية كما يحدد القيمة الحكومية لكل عمل ويلغي مطالبات سوق البيع لذلك، لهذا لقي معارضة شديدة ليس فقط من لصوص التحف بل من التجار وهواة اقتناء هذه الكنوز لأنه حسب رأيهم يحد من هذه التجارة ويحصرها بنطاق ضيق. لهذا ليس من المعقول أن نحصر القطع الفنية ببلد وحده، فماذا لو أردنا بيع لوحة إلى براغ أو لشبونة؟ ولماذا تبقى لوحة عمرها 70 عاماً محصورة بميونيخ وبقيمة 300 ألف يورو فقط، ولا يمكن نقلها إلى سالزبورغ بالنمسا لتتضاعف قيمتها؟ لقد قرر وزير الثقافة الألماني حظر بيع أو تصدير أي عمل فني خارج الحدود الألمانية، وطلب في 23 شباط 2015 بفهرسة جميع التحف الموجودة في ألمانيا تاركاً حرية الموافقة للولايات الألمانية الست عشرة، وبالفعل تم تسجيل أكثر من 1000 عمل فني يملكها القطاع الخاص.
بموجب القانون الجديد؛ كل قطعة آثار أو عمل فني يدخل ألمانيا لا يخرج منها، ويُمنع بيع أي قطعة لشخص سيخرج بها من ألمانيا مهما دفع ثمنها. إذا يمكننا القول إن سوق المزادات على القطع الفنية قد أغلق تقريباً لكل من هو غير ألماني، ولن نرى بعد اليوم رجال أعمال من دول أخرى يشاركون بمزادات في مدن ألمانية.
كانت أعلنت رابطة أمناء متحف الفن في الأول من تشرين الجاري، عن إطلاق بروتوكولات لتوفير ملاذات آمنة للأعمال الفنية ذات الأهمية الثقافية في بلدان الأزمات، للمساعدة على حماية الأعمال التي تشكل قاعدة مهمة في الفن والآثار وهي حالياً عرضة لخطر الدمار والاتجار غير المشروع. توفر البروتوكولات إطاراً لعمل المتاحف حول العالم، لتؤمن بدورها حماية الأعمال الموجودة في طور الحروب، الإرهاب، أو الكوارث الطبيعية. بموجب البروتوكول يستطيع أصحاب أو مودعو التحف طلب الملاذ الأمن لها في أحد المتاحف الأعضاء في (AAMD) حتى زوال الخطر. المتاحف التي تقبل القطع، تقوم بتسجيلها في قسم الكتروني جديد خاص، ضمن صفحة تسجيل التحف الخاصة بموقعهم على الإنترنت، حيث تتوافر كل المعلومات عنها للجمهور.
جونيتا كول رئيس رابطة مديري متحف الفن ومدير المتحف الوطني للفن الإفريقي، قال: «حجم المعاناة الإنسانية والخسائر في الأرواح الموجودة في سورية وغيرها من المناطق المنكوبة هائل، ويتفاقم الأمر عندما نسمع أن ذلك قد طال التراث الإنساني الفريد من مختلف الثقافات التي تنتمي إليها الإنسانية جمعاء، فمستوى الدمار والضرر المتعمد ومحاولة القضاء على الهوية الثقافية تبعث على الأسى، إننا نقف مع المجتمع الدولي في إدانة هذه الأعمال وشجب العنف والتخريب الوحشي، فمن الأهمية بمكان أن نفعل كل ما بوسعنا للمساعدة في إنقاذ الأعمال المهددة بالخطر لجميع الناس والأجيال القادمة».
أنشأت البروتوكولات نظاماً لصون سلامة القطعة فيزيائياً، وغطت عملية النقل والتخزين، وفحصها من قبل الخبراء، وحمايتها القانونية، ومشاركتها في المعارض، بالإضافة لمسائل الحفظ والعودة الآمنة للأفراد أو الهيئات المناسبة في أقرب وقت ممكن.
أجمع الخبراء؛ جوليان رابي عضو فريق العمل على المواد الأثرية والفن القديم في (AAMD)، وديما جيليان مديرة صالة عرض ساكلر للفن، وآرثر العامل معها أنّه: «في ظل هذه البروتوكولات، لن تكون الأعمال الفنية والآثار التي سنودعها في المتاحف ملكاً للمتحف، فالوصول لهذه القطع أو عرضها، سيكون محدداً برغبة المودِع فقط، وسوف نتعاون مع الزملاء في دول العالم لمعالجة هذه الأزمة وبشكل عاجل». بالإضافة لذلك يمكن للقطع التي تم نهبها وإحضارها، أن تكون جزءاً أيضاً مما يتم صونه وحمايته لحين عودتها لبلد المنشأ، وتوفير ملاذ آمن لهذه الأعمال يخرجها من السوق (سواء كانت بشكل قانوني أو غير قانوني).
قبل قبول القطعة الأثرية أو الفنية، ينبغي أن تنظر المتاحف الأعضاء ما إذا كانت محميّة قانونياً مثل الحصانة من الحجز، وبحيث تتوافر في البلاد الحماية المؤَمنة اللازمة لتجنب شكوى المودع، ثم يجري حصر وتوثيق حالة تلك الأعمال قبل أن تتم حمايتها، فالنسخ من القطع يجب أن تكون في الموقع الأصلي، بحيث تُرسَل مع القطع الأصلية أثناء الترانزيت للمتحف المعني بالحماية، ولا تتم الحماية إلا بموافقة المودع نفسه، إلا في الحالات الطارئة، وتكون تحت الرعاية والاهتمام المهني أيضاً.
ينبغي أن يتم جرد جميع الأعمال الفنية والأثرية. شجعت (AAMD) بقوة 240 عضواً من أعضائها في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، على اعتماد هذه البروتوكولات، ودعت المتاحف في جميع أنحاء العالم لبذل جهودها الرامية لحماية الأعمال المهددة بالخطر، فرابطة مديري متحف الفن تعزز الدور الحيوي للمتاحف في شمال أميركا وتطور المهنة من خلال القيادة ومعايير التميز في نشاطات المتاحف.
في سياق متصل، وافقت اليونيسكو على اقتراح إيطاليا القاضي بنشر وحدات الأمم المتحدة ذات الخوذ الزرقاء في جميع الدول، لحماية التراث من هجمات المتشددين الإسلاميين الشرسة. وصرح وزير الثقافة داريو فرانسيشيني في بيانه: «قالت اليونيسكو نعم للقبعات الزرقاء الثقافية». مشيراً إلى أن 53 دولة صوتت للاقتراح بعد تدمير العديد من المواقع الأثرية من قبل داعش، وخاصة تدمُـر: «لا يمكن للمجتمع الدولي أن يقف متفرجاً في مواجهة الهجمات الإرهابية لداعش والصور الرهيبة لتدمر». وأردفَ أن قوات حفظ السلام المعروفة بقبعاتها الزرقاء المميزة، يُمكنها الاستفادة من خبرات شرطة الفن والتراث الإيطالية، التي تنفذ مهمات تدريبية في مختلف أنحاء العالم.
هدف هذه القوات سيتحقق في المواقع المهمة المعرضة للحروب أو الهجمات الإرهابية أو الكوارث الطبيعية، بحيث ستتمكن الأمم المتحدة من نشر قوات القبعات الزرقاء فيها لحمايتها والدفاع عنها.