بين الديانة الإبراهيمية ومشروع الشام الجديد: ماذا يعني اجتماع الجوار العراقي؟
| فراس عزيز ديب
بعدَ أن حملت القمة اسم «مؤتمر دولَ الجوار العراقي»، يبدو أنَّ المنظمين انتبهوا لأن العنوان بهذا الشكل بات مثارَ سخريةٍ فعدَّلوه ليصبح: قمة بغداد للتعاون والشراكة بين دول الجوار العراقي.
أيَّاً كانت التسميات لا فرق لأنه مؤتمر يذكرّك بحلقات مؤتمر أصدقاء سورية، وغيرها من التسميات التي تهدف في الأساس لإيجاد بوتقةٍ واحدة توحِّد كمّ الأكاذيب والنفاق الذي يحمله المجتمعون، لأنَّ ما من عنوان جامعٍ ومفيد يمكنهُ فعلَ ذلك.
ركَّز الجميع على كيفية تسمية المؤتمر بـ«جوار العراق» ولا تتم دعوةَ سورية إليه، هذه المشكلة قد تبدو آخر العقبات في وجهِ هكذا مؤتمرات وبمعنى آخر: إن كان المؤتمر سينجح بتحقيق أهدافهِ من دون وجود سورية، وسيعيد الأمن والأمان والرخاء الاقتصادي للعراق وسيبعده عن حروبه الصغيرة أقلها حرب المرجعيات، وحروبه الكبرى التي أهمها الحرب على الإرهاب والتقسيم ويحقق التنمية المستدامة للمنطقة بعيداً عن التدخلات الخارجية، فلينجح من مبدأ «إذا جارك بخير فأنت بخير»، لكن فعلياً ما هي حدود نجاح هكذا مؤتمر؟
بعيداً عن كلمات الحضور الافتتاحية والتي لم تخرج عن الكلام المعسول الذي لا يتطابق مع سلوكِ مطلقيها، كأن يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن «كل من يحاربون الإرهاب هم أشقاؤنا في السلاح»، أو أن يقول وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو بأن منطقتنا «لم يعد بإمكانها تحمّلَ المزيد من الانقسامات العرقية والطائفية»، فإن هذهِ القمة لابد من التعاطي معها من ثلاث محاور:
أولاً: المكان
ربما أن الأميركي كان يحلم بأن يكون هذا المؤتمر في أفغانستان بعدَ نجاح عملية الديمقراطية القسرية التي بدأت بالغزو والنهب وانتهت بالهروب. كان الأميركي يريد من هكذا مؤتمر ومن قلبِ العاصمة كابل أن يقول بأنَّ النموذج الأفغاني لدمقرطةِ هذا الشرق البائس هي الأفضل. لكن حساب الحقل لم يُطابق حساب البيدر، خرج الأميركي يجرُّ أوحال هزيمةٍ ما زال هناك من يرفض رؤيتها فقط لأنهُ يكره طالبان، فكان لابد من بديلٍ يُعيد تعويمَ التجارب الأميركية ولو من الناحية الإعلامية، وهل هناكَ أفضل من العراق لهكذا مهمة؟
منذُ سقوط بغداد بيد عصابةِ الإجرام الأميركية ومن جاؤوا على دباباتها من عملاءَ، كان العراق البقعة الأكثر تأثيراً بمحيطها، فالانقسام السياسي اختفى بعدَ أن خفتت الحياة السياسية لصالحِ دستور بريمر الذي عزَّز الطائفية والمذهبية فانعكس الأمر على دول الجوار بين ضفتي الخليج العربي بعدَ أن تحول العراق إلى ساحة لتصفيةِ الحساب لا أكثر. أما الانقسام الإثني فحوّلَ طموحات «البعض» بدولةٍ يدَّعون وجودها تاريخياً إلى حقيقة ليصبح الشمال العراقي شبهَ دولةٍ، فهل العراق بوضعه الحالي قادر أن يكون نقطةَ اتصالٍ بين دول المنطقة وغيرها من الدول لضمان عودة التعاون بينها؟
كيفَ لبلدٍ يحتاج فيه بعض الزعامات السياسية وغير السياسية، إلى موافقات الدول التي تدعمهم ليلتقوا، أن يتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى بلدٍ سيشهد على مصالحة إيرانية – سعودية أو مصرية – قطرية؟! فأحد الرؤساء العرب في القمة قال بكلمته الافتتاحية بأن بلاده «تدين الاعتداء على أراضي العراق والتدخلات الخارجية في شؤونه»، هل يشمل هذا الكلام إيران وتركيا فقط أم إن الراعي الأميركي مشمول معهم من وجهةِ نظره؟! لكن يبدو أن اختيار المكان له أبعاد عابرة للحدود.
ثانياً: مشروع «الشام الكبير»
هناك وجهة نظر منطقية تستند إلى فكرةِ نجاح قمة «الشام الكبير» التي عُقدت في العراق حزيران الماضي بحضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد اللـه الثاني والتي يمكن البناء عليها في إطارٍ أوسع.
مبدئياً على الذين يروّجون لفكرةِ نجاح قمة «الشام الكبير» أن يشرحوا لنا ما هي حدود النجاح وما هي الانجازات التي تم تحقيقها، هل مساهمة مصر والأردن في إعادة إعمار العراق هي إنجاز؟ إن معظم المشاريع التي جرى التوافق عليها، تحديداً فيما يتعلق بخطوط نقل النفط والغاز أو الربط الكهربائي اتفاقيات لها جذور في إطار الاتفاقيات العربية سابقاً وليست من بنات أفكار المشاركين، والدليل على ذلك وجود البنى التحتية المتعلقة بهذه المشاريع. طبعاً لن نتحدث هنا عن تعاون عسكري لأن هذا النوع من التعاون ممنوع بين الدول العربية من دون الرضا الأميركي فتراهم يستبدلونه بعبارات عن «تعاون أمني واستخبارات».
بذات الوقت فإن من يروج لنجاح هذا المشروع عليهِ أن يحدثنا عن المشروع بشكلٍ كامل أو على الأقل كما تريده الولايات المتحدة باتجاهين:
الاتجاه الأول تمثلَ بسعي أميركي للضغط على إيران في العراق وإعادة العراق إلى محيطه العربي ولو جزئياً، من هنا كان غياب السعودية عن القمة مفهوماً، هي لم تشأ الظهور يومها في الصورة كي لا يبدو الأمر وكأنه نكاية في إيران، بالتأكيد لن نكون ضد استعادة أي دولة يراها البعض بأنها خرجت عن محيطها العربي لكن بالمطلق عليهم الإجابة عل تساؤلٍ أساسي:
هل الدفع الأميركي لمواجهة اقتصادية مصرية أردنية من جهة وإيرانية من جهة ثانية، هو فقط لرفع السقف في مفاوضات فيينا؟
أما الاتجاه الثاني فيتعلق بالامتداد الجغرافي للمشروع، هل سيمتد كما يريدهُ الأميركي ليشمل إسرائيل؟ الجواب عند العراقيين أنفسهم، وهل العراق جاهز للدخول بهكذا مغامرة؟
ثالثاً: الحج الإبراهيمي والتطبيع
منذُ زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق في الربيعِ الماضي، واستعادة مصطلح «الديانة الإبراهيمية» لألقهِ بعدَ سنواتٍ من وضعهِ في الثلاجة، كَثُر الحديث عن تفشي داء التطبيع بين الدول العربية. هناك من ربط أساساً بين الزيارة والتطبيع، أي إنه حسب البعض فإن «باباوات روما» الذين لم يستطيعوا الموانة على الحكومات الغربية لوقف إقرار قوانين زواج المثليين، جاءَ ليَمونَ على دول المنطقة بقضية الحج الإبراهيمي الممتد من العراق حتى فلسطين المحتلة. ربما هذا الربط كان ولا يزال فيهِ الكثير من المبالغة لكن أسوأ ما فيهِ هو الخلط غير المتزن أحياناً بين المادي والمعنوي.
لكل مصطلح أو فعلٍ في هذهِ الحياة صورة معنوية سامية وصورة مادية قد تبدو مقززة إن أدخلناها بالرغبات الشخصية، فالصلاة مثلاً هي انعكاس لاتصالِ العبد بالخالق، هي صورة روحانية لا تحتاج إلى اتجاه فالله سبحانه وتعالى ليس في مكة ولا بيت لحم، «فأينما تولوا فثم وجه الله»، ولا تحتاج إلى عقوبة لتاركها «فمن شاء فليؤمن»، لكنها بالوقت ذاته قد تصبح مقتلاً للروحانية الدينية عندما نقطع الطريق لكي نقيم الصلاة، أو نحتل دولاً لكي نستولي على مكانٍ لا يجوز الصلاة إلا فيهِ.
مصطلح الديانة الإبراهيمية ظهر كنوعٍ من البحث عن نقطةِ التقاء بين الأديان، هو أمر جوهري فلا أحد يريد الصدام بين الأديان، لكن بالوقت ذاته هناك عدم تمييز بين التقاء الأديان ودعوات التطبيع، فبالطريقة ذاتها التي تحاول بها اليهودية السياسية «الصهيونية المؤسسة للكيان المسخ» استغلال أي مصطلح لفرض التطبيع هناك بالوقت ذاته في المسيحية السياسية والإسلام السياسي من يستغل غيرها من المصطلحات لفرض ذات التطبيع، بكلا الحالتين علينا أن نكون متصالحين مع أنفسنا لنسأل هل مشكلتنا مع اليهودية كديانة أم مع الصهيونية كوجهٍ سياسي مجرم؟
ببساطة لا تختلف اليهودية السياسية عن الإسلام السياسي كلهم في السياسة مجرمون وفي الدين تجار، من دونَ أن ننسى بأنَّ في الدين اليهودي أساساً رجال دين يرفضون قيام دولة إسرائيل، إذاً وسط هذه المعمعة، ماذا سيفعل العراق الجريح حيال كل هذه التداخلات؟ هل حقاً إننا مقتنعون بأن هكذا مؤتمرات ستنتهي بالتطبيع؟
في الخلاصة: لا تبدو قمة بغداد أكثر من استعراض دبلوماسي لا طائلَ منه، وبمعنى أوضح هي لعب في الوقت الضائع على مبدأ لن يصلح العطار ما أفسدته الحروب الكاذبة ضد الإرهاب، ولا التآمر على الشعوب، لن تحدث تنمية مستدامة والعقوبات سلاح يستخدمها الغرب ضد الشعوب التي رفضت بيعَ أوطانها أو الحكومات التي رفضت أن تكون ألعوبة بيد هذا وذاك، مؤتمرات كهذه تدَّعي محاربة الإرهاب والسعي للتنمية المستدامة في المنطقة إن لم تبدأ بقيام الدول الكبرى بإلغاء كل العقوبات الاقتصادية على شعوب المنطقة وعدم الكيل بخمسين مكيالاً بما يتعلق بالحرب على الإرهاب وسحب كافة قواتها المحتلة لثرواتِ دولٍ ذات سيادة، هي مؤتمرات أكبر من مؤتمرات المعارضات السورية وأصغر من مؤتمرات الجامعة العربية، هل حقاً هناك من يكترث لها؟!