هو محمد بن عبد الملك المعروف بأبي بكر بن زهر، فقد نشأ في بيت علم، إذ كان والده وجده طبيبين، وإن والده وجد فيه مخايل الذكاء، فأخذ يشوقه إلى دراسة الطب، وإذا بصاحبنا يبرع فيه حتى أصبح فيه أشد مهارة من والده، وكان الوالد والابن طبيبين في قصر حاكم إشبيلية (عبد المؤمن) ومجمل دليل تفوقه أن حاكم إشبيلية احتاج إلى علاج فوصف له الطبيب الوالد دواء، غير أن طبيبنا أبا بكر رأى أنه دواء غير صالح، ما جعل عبد المؤمن في حيرة من أمره، فقال (عبد الملك) يا أمير المؤمنين: إن الصواب في قوله، فلما تناوله عبد المؤمن انتفع به وشفي من علته.
ومما يدل على موهبته الفنية ما أجمع عليه مؤرّخوه من أنه انفرد بنظم الموشحات، وهي لون من الشعر، لو أردنا أن نوفيه حقّه لخرجنا من القصد، على أن طبيبنا أبا بكر لم يقتصر تثقيفه على الناحية الطبية وإنما ثقّف نفسه ثقافة دينية وأدبية، فقد حفظ القرآن وسمع الحديث، وأقبل على الأدب واللغة العربية، فبرع في ذلك كله، وعانى الشعر، فبلغ الإجادة فيه، وكان يحفظ شعر (ذي الرمة)، ومن يحفظ شعر هذا الشاعر يتكون لديه رصيد ضخم في اللغة والأدب، ولقد كان من حسن توفيقه أنه أنفق مع حياته في (إشبيلية) وهي مدينة أفاء الله عليها من جمال الطبيعة ما لا يكاد يوجد إلا في قليل من المدن، شبهها أكثر واصفيها بالقاهرة، إذ كان نهرها شبيهاً بنهر النيل، وإذا ما تذكرنا أن أديبنا يحيا في قصور الخليفة (عبد المؤمن) حاكم إشبيلية عرفنا أي حياة تظل ذلك الأديب، لهذا كله لا نعجب إذا وجدنا نفسه يملؤها حسّ مرهف يتمثل فيها، بقي لنا من شعره على شاكلة قوله:
يا مَنْ يذكرنا بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب
أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب
ملأ الضلوع وفاض عن أجنائها قلب إذا ذكر الحبيب يذوب
مازال يضرب خافقاً بجناحه يا ليت شعري هل تطير قلوب
ومما تشير مواهب (ابن زهر) أنه استطاع أن يؤلف الموشحات الأندلسية ويجمعها في مكتبة العامرة في إشبيلية، وقد وصلت هذه الموشحات الأندلسية إلى بلاد المشرق العربي، واستطاع الفن العربي المشرقي أن يطور هذه الموشحات الأندلسية، مثل الموشح:
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
على أن (ابن زهر) الطبيب الشاعر قد أيقظ في شعر الموشحات الروح العربية في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وسائر الدولة العربية في الأندلس، ومازالت مكتباتنا العربية تعج بهذه الموشحات الخالدة، يقول (ابن زهر) في موشح له فريد من نوعه:
ما للموله… من سكره لا يفيق… يا له سكران
من غير خمر… يا للكئيب المشوق… يندب الأوطان
والماء يجري… وعائم وغريق… من جنة الريحان