قضايا وآراء

الأزمات والانقسام الاقتصادي في العالم

| الدكتور قحطان السيوفي

الأزمات تكشف النقاب عن الانقسامات العميقة في العالم، في السياسة، كما الاقتصاد. والحديث عن مفهوم اقتصاد جديد، يتطلب الإسراع برفع مستوى التدريب والمهارات، وبالتوازي مع تغيرات سوق العمل ستكون هناك حاجة إلى وضع برنامج متكامل للحد من عدم المساواة في توزيع الدخل وأن يُقر هذا البرنامج، وأن نموذج المنافسة التوازنية الذي يستخدمه المنتجون لتحقيق أقصى الأرباح لا يقدم صورة جيدة لاقتصاد اليوم الذي يقع تحت طائلة نفوذ السوق والاستغلال.
اجتمعت عوامل ضعف القيود على قوة الشركات، وانكماش القوة التفاوضية للعاملين وتقلص القواعد التي تحكم استغلال المستهلكين والمقترضين، كل ذلك أدى إلى اقتصاد تشوبه زيادة السعي لتحقيق الريع وزيادة عدم المساواة.
في فترة حكم الليبرالية الجديدة، لم يأبه أحد بمدى مساهمة السياسات في زيادة التقلب وعدم المساواة، وتعميق شعور الأفراد بعدم الأمان.
وهذه القواعد باتت اليوم تحدد بعض جوانب ردود أفعال الاقتصادات في مواجهة الأزمات بما في ذلك جائحة كورونا، ففي بعض الدول شجعت هذه القواعد على قصر النظر وعدم المساواة، وخاصة المجتمعات التي لم تحسن التعامل مع كوفيد – 19 بشكل مناسب.
كشف فيروس كورونا عن أوجه عدم المساواة بين الدول، فالاقتصادات الأقل نمواً تعاني ظروفاً صحية سيئة، ونظمها الصحية أقل قدرة للتعامل مع الجائحة، وأوضاع سكانها المعيشية السيئة تزيد من مخاطر تعرضهم للإصابة بالمرض، وهم ببساطة لا يمتلكون الموارد التي تمتلكها الاقتصادات المتقدمة لمواجهة الأوضاع الاقتصادية بعد الجائحة.
عالمياً هناك فروق ملحوظة في طريقة التعامل مع جائحة كورونا، من حيث مدى نجاح الدول في الحفاظ على صحة مواطنيها واقتصاداتها وفي حجم ما ظهر من عدم المساواة، ولهذه الفروق أسباب كثيرة منها: حالة الرعاية الصحية التي كانت موجودة سابقاً وعدم مساواة النظم الصحية، بما فيها الاعتماد على العلم والخبرة، وثقة المواطنين في توجيهات الحكومة.
فيروس كورونا لم يراع تكافؤ الفرص: فهو يصيب من هم في حالة صحية سيئة إضافة إلى أولئك المعرضين لقدر أكبر من الاختلاط بآخرين في حياتهم اليومية، وهو يصيب الفقراء بشكل غير تناسبي، خاصة في الدول الفقيرة وفي اقتصادات متقدمة مثل الولايات المتحدة، وأن أحد أسباب تسجيل الولايات المتحدة لأعلى أعداد حالات الإصابة والوفيات، وعلى الأقل حسبما ورد في وسائل الإعلام، هو أن متوسط مستويات الرعاية الصحية لديها من أدنى المستويات بين كبرى الاقتصادات المتقدمة.
ويمكننا مع ذلك استخلاص دروس من تجربة نيوزيلاندا مقارنة بتجربة الولايات المتحدة الأميركية، فحكومة نيوزلاندا أثبتت كفاءتها في الاعتماد على العلم والخبرة في اتخاذ قراراتها، بلد لديه مستوى عال من التضامن الاجتماعي، ومن الثقة، فقد تمكنت نيوزيلاندا من السيطرة على جائحة كورونا وتعمل حالياً على إعادة بناء نوع من اقتصاد ما بعد الجائحة، اقتصاد أكثر اخضراراً، وبني على المعرفة وعلى قدر أكبر من المساواة والثقة والتضامن.
وهناك احتمالات بأن تفضي الجائحة إلى سلسلة متلاحقة من أزمات الدين، ففي ظل انخفاض أسعار الفائدة مقترناً بدفع الأسواق المالية في الاقتصادات المتقدمة للقروض والإسراف في الاقتراض في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، ازدادت ديون عديد من الدول وتجاوزت قدرتها على خدمتها، نظراً لحجم انكماش النشاط الاقتصادي بفعل الجائحة.
تزيد الجائحة من تهديد الأتمتة للعاملين في المجالات التي تحتاج إلى مهارات محدودة، وفي الخدمات التي تتطلب التفاعل، كالعاملين في مجالي التعليم والصحة على سبيل المثال وسيؤدي هذا التحول إلى زيادة عدم المساواة.
عدم المساواة في عالم ما بعد الجائحة يمكن أن يكون أكبر من ذلك ما لم تتخذ الحكومات إجراءات حيالها، لأن وباء كورونا لن ينتهي بسهولة وستظل هناك مخاوف من ظهور جائحة أخرى.
العالم بحاجة إلى إعادة صياغة شاملة لقواعد الاقتصاد؛ فالسياسات النقدية يجب أن تركز على ضمان التوظيف الكامل لجميع الفئات، وإلى قوانين إفلاس متوازنة بشكل أفضل، لتحل محل تلك التي أصبحت تُفرط في مساندة الدائنين ومساءلة المصرفيين الذين شاركوا في الإقراض الجائر.
ويتعين أن تقوم تشريعات العمل بدور أفضل في حماية العاملين وتوسيع نطاق العمل الجماعي.
وسيتعين العمل لتحسين توزيع الدخل في السوق وإعادة توزيعه، وعلى عكس ما هو منتظر، فبعض الدول التي تسجل أعلى درجات من عدم المساواة في توزيع الدخل المتحقق من السوق، مثل الولايات المتحدة، تطبق بالفعل نظم الضرائب التنازلية، ما يعني أن أصحاب أعلى مستويات الدخل يدفعون نسبة أصغر من دخلهم كضرائب مقارنة بالعاملين الأقل دخلاً، وللأسف فإن عدم المساواة في عالم ما بعد الجائحة يمكن أن يكون أكبر من ذلك ما لم تتخذ الحكومات إجراءات حيالها.
لن تتسنى السيطرة على جائحة كورونا حتى تتم السيطرة عليها في كل مكان، ولن تتحسن حالة الهبوط الاقتصادي حتى يتحقق التعافي العالمي القوي. الاقتصادات المتقدمة يجب أن تقدم المساعدة التي تحتاج إليها الاقتصادات النامية والأسواق الصاعدة، ومن دون هذه المساعدة، ستستمر الجائحة العالمية فترات أطول، وسيزداد عدم المساواة في العالم، وسيكون هناك تباعد عالمي.
كشفت الجائحة عن تفاوتات هائلة عبر دول العالم، ومن المرجح أن تؤدي الجائحة ذاتها إلى زيادة هذه التفاوتات، مخلفة آثاراً مؤسفة، ما لم يكن هناك ما يبرهن على زيادة التضامن العالمي والوطني، لكن بقدر النجاح الهائل الذي تحقق في بعض الأماكن، شهدت مناطق أخرى إخفاقات هائلة.
الأزمة الجائحة، على الأرجح، ستظل بيننا فترة طويلة وستظل عواقبها الاقتصادية فترة أطول، وسيستمر الانقسام الاقتصادي في العالم وعدم المساواة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن