قضايا وآراء

مبادرة أردنية مرتقبة

| عبد المنعم علي عيسى

في غضون شهر واحد قام ملك الأردن عبد الله الثاني بزيارتين لكل من واشنطن وموسكو على التوالي التقى خلالهما الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، فيما تظهر البيانات الصادرة بعد هذين اللقاءين أن الملف السوري كان على رأس المواضيع التي جرت مناقشتها، في محاولة تبدو أقرب ما تكون لجس نبض أردني يريد الوقوف عن كثب عند المخرجات التي خلصت إليها قمة بوتين – بايدن المنعقدة 16 حزيران الماضي في جنيف، وهي القمة التي قيل فيها الكثير، لكن الثابت أنها كانت تمثل محطة تلاق روسية أميركية لا يعرف المدى الذي وصلت إليه في الملف السوري، وإن بدأت نتائجها بالظهور تدريجياً، حيث سيمثل صدور القرار 2585 في 9 تموز الماضي، والقاضي بتمديد إدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى على الحدود التركية السورية، محطة بارزة في هذا السياق، لكنها في الآن ذاته تفتح باب الاحتمالات على ظهور محطات أخرى يرتبط خروجها إلى العلن بجداول زمنية، أو تبعاً للتطورات التي تفرضها المستجدات.
كان الملك قبيل توجهه إلى واشنطن قد أجرى مقابلة مطولة مع شبكة «سي إن إن» الأميركية نشرتها في 19 تموز الماضي، وأهم ما قاله فيها: «إن الرئيس بشار الأسد وحكومته باقيان في سورية ولأمد طويل»، والمؤكد هو أن التصريح سابق الذكر يمثل السقف الذي يقع تحته الحراك الأردني الأخير، والذي بات يقترب اليوم من أن يصبح مبادرة تطلقها عمان لحل الأزمة السورية، وإن كان من المرجح أنها لا تزال قيد التبلور، والفعل لكي يستكمل بنيانه لا يزال يحتاج إلى مزيد من المشاورات مع أطراف إقليمية فاعلة ترى عمان أنها تمتلك الزيت الكافي الذي يمكن له أن يحل الصدأ المتراكم على السكة الواصلة فيما بينها وبين دمشق بفعل زمن مديد راكم الكثير من تضارب الرؤى والمصالح والأهداف.
قبيل الدخول في الظروف والمعطيات التي قادت إلى هذا التحول الكبير في الموقف الأردني مؤخراً، نرى من الواجب الوقوف عند الظروف والمعطيات التي دفعت بالأردن لاتخاذ الموقف الذي اتخذه ربيع العام 2011، ونظرة «طائر» تقف اليوم على مبعدة عقد من هذا الأخير، تأخذ بعين الاعتبار ظروف النشوء ومكامن الاستقرار لكيان يرى أن استقراره محتوم بظروف شديدة التعقيد يلعب الخارجيين الإقليمي والدولي فيها دوراً هو الأبرز، هذه النظرة تقول إن عمان استشرفت مبكراً وجود قرار بوجوب اتساع كرة النار المحيطة بدمشق، كان ذلك يتعارض مع رؤيتها القائلة بأن من الصعب على تلك النار أن تحقق مراميها، ولذا فقد مضت نحو إسداء النصائح الذي لم تلق آذاناً مصغية في مناخات كان من الواضح أن صوت العقل فيها قد جرى تغييبه لمصلحة علو أصوات هي على النقيض منه، والتي كانت ترصدها تصريحات العديد من المسؤولين الذين كانوا يملؤون الفضائيات ووكالات الأنباء بالصراخ والعويل، هنا كان أمام عمان خياران لا ثالث لهما، أولاهما الوقوف على الحياد، وذاك خيار لربما كان من الصعب عليها اختياره لأن أكلافه ستكون بقدر يفوق القدرات الأردنية على الاحتمال، أما ثانيهما فهو الانخراط في مشروع النار وإذكائها، وهو ما ذهبت إليه بعيد وعود تحصلت عليها، عمان، بأن «الخنادق» العازلة ستبقى على جاهزيتها لمنع وصول النار إلى الأراضي الأردنية، كان الموقف الأردني يرى أنه ما من سبيل للنجاة من النار السورية، طالما أن إيقاف لهيبها متعذر، سوى الانخراط في تقديم «الحطب» بضمانة عدم وصولها إلى الأراضي الأردنية.
نعود إلى المعطيات التي قادت نحو هذا التحول الأردني الذي يصح اعتباره أنه أحد أهم المؤشرات على مكان حدوث اختراق كبير على طريق إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، والاعتبار هنا يتأتى من أن الأردن، بتركيبته والدور الذي وجد لأجله، بإمكانه قول ما لا يستطيع أحد غيره قوله، بل ويستطيع الرمي بأفكار لن يكون وقعها هو نفسه فيما لو جاءت على ألسنة آخرين حتى ولو كان هؤلاء مصنفون في خانة الحلفاء لمن يقولون لهم، وهذا عائد لاعتبارات بعضها معروف وبعضها الآخر لا نجد فائدة من ذكره الآن، أولى هذه المعطيات هي أن الأردن يرى أنه طالما وصلت كل المخططات والمشاريع ومعهما الخطة «أ» والخطة «ب» إلى خواتيمها التي تشي بفشلها المستدام حتى ولو جرى اجتراح بدائل من نوع «ج» أو «د» فإن الحكمة والمصلحة، تقتضيان الاعتراف بالأمر الواقع لكي يبنى على الشيء مقتضاه، فانزياح موازين القوى الداخلي باتجاه الحكومة السورية كان منذ العام 2016 يزداد وضوحاً الأمر الذي كرسته محطات عدة كمحطة صيف العام 2018 ثم محطة صيف العام الحالي، ثم إن الاقتصاد الأردني ذا القدرات المتواضعة ضاق ذرعاً باستضافة طال أمدها بمليون وثلاثمائة ألف لاجئ سوري موجودين على أراضيه، وهو يرى فيهم «قنبلة» ديموغرافية تضاف إلى قنابل من النوع نفسه تحتويها التركيبة الأردنية، ناهيك عن أن القطيعة الاقتصادية مع دمشق كانت نوعاً من الموات التدريجي للاقتصاد الأردني الذي يمر الآن بمرحلة حرجة تفرض على غرف السياسة الوقوف عند مستلزمات الخروج منها، والمؤكد هو أن حقائق الاقتصاد تفرض على الساسة تبديل «البلدوزر» المستخدم إذا ما عجز عن شق الطريق بآخر يستطيع القيام بالمهمة التي لا بديل عنها.
هذا في الواقع الراهن، أما في التطلعات، فإن الأردن يرنو، وفي الأمر ما يدعو إليه، للعب دور بوابة الإعمار في سورية، التي تشي كثير من المعطيات أنها على وشك أن تفتح على مصاريعها، في الوقت الذي ترى فيه عمان أنها قادرة، بحكم عوامل عدة، على لعب دور «الإسفنجة» في هكذا مسار.
أياً تكن المآلات التي يمكن أن يذهب إليها الدور الأردني راهناً، إلا أن تلبس عمان لهكذا ثوب إيجابي بكل المقاييس، ثم إن «النفس» الذي تبديه يشي بكم كبير من حسن النيات، ولربما ظهرت أولى الدفوعات في هذا السياق عبر قمة الملك الأخيرة مع بوتين، والتي ساعدت، من دون أدنى شك، بدفع التسوية الحاصلة قبل أيام في درعا على الرغم من هشاشتها.
لكي تكتمل الرؤيا التي تقود إلى إطلاق عمان لمبادرتها المرتقبة، لا بد لعمان من وقوف مطول عند مخرجات الحوار الروسي الأميركي الدائر راهناً، والذي من المقدر له أن يفضي إلى توافق حول آليات تنفيذ القرار 2254 للعام 2015.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن