قضايا وآراء

العقل السياسي

| د.حسام شعيب

لا تزال منطقتنا العربية تغرق في وحل مشكلاتها التي لم تنته بعد، وفي أزماتها التي تتمادى عاماً بعد عام، ولا يزال التساؤل عن سُبل الخروج من ذاك النفق المظلم الذي نعيش فيه يتجدد، مع تدهور الأحوال وعجز العقل العربي عن صياغة مشروع فكري قادر على أن ينهض بمنطقتنا من كبوتها العقلية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أيضاً.
من المهم جداً التركيز على قيمة العقل الفكري السياسي العربي باعتباره المآل الوحيد إلى عودة العرب من جديد لقيادة الحضارة الكونية، خصوصاً إذا علمنا أن أحد أهم الأهداف الرئيسة لما سميَّ بـ«الربيع العربي» الأميركي هو خلق فوضى فكرية سياسية في العقل العربي، وهو ما أطلق عليه الأميركيون مصطلح «الفوضى الخلاقة».
إن نجاة العقل السياسي من أزماته المتلاحقة واضطراباته المتكررة وتوحده مع الآخر لا تكون إلا بإلغاء المسببات التي أودت به إلى هذه الحال، هذه الفوضى التي أُريد لها أن تكون منهج تفكيرٍ جديداً للعقل العربي بمختلف المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية وأيضاً الاقتصادية والدينية.
رغم أن المسببات الأصلية والمحددات التاريخية الموروثة للعقل السياسي كانت أحد أهم عوامل ما ارتكز عليه الأميركي في مشروع «الفوضى الخلاقة» التي لم يستطع العقل السياسي تجاوزها أو التخلص من أثارها كي يتلقى صدمة فوضى الفكر السياسي العربي الحاصل.
وسورية شأنها شأن كثير من الدول العربية التي وقعت في مواجهة مشروع الفوضى الخلاقة الأميركية إن لم نَقُل أن المشروع الأميركي في سورية كان أكثر فتكاً بها من خلال استخدام معظم الأدوات المالية والسياسية والعسكرية والدينية والاجتماعية.
وفي ظل اشتداد الأزمة الحاصلة في البلاد والتي أُريد لها أن تغرقها، يبدو من الطبيعي اتجاه العقل السياسي السوري إلى البحث عن مسارات للخروج من الأزمة، وهذا أمر طبيعي تواجهه مختلف المجتمعات التي تسعى للتغيير على اعتبار أن هذه المرحلة تتطلب عدة ذهنيات وآليات عمل مختلفة تواكب هذا التغيير، غير أن معطيات الحالة السورية فرضت نمطاً مختلفاً من التفكير يرتكز على توقعات شكل المرحلة القادمة على سورية وطبيعتها وإمكانية ضبطها.
ومن شأن المتابع للإنتاجات الفكرية والصيغ الذهنية السورية في هذه المرحلة ملاحظة أن آليات عمل العقلية السورية تقع بين هدفين، هدف المحافظة على حدود الدولة الوطنية وعودتها بالكامل وينطلق تحقيق هذا الهدف من حيثيات عديدة أولاها الارتكاز على الشرعية الوطنية وعلى عنصر التسامح الاجتماعي الذي طبع الشخصية السورية عقوداً طويلة وبالتالي فإن التراث الكبير لهذا العنصر لابد أن يشكل داعماً طبيعياً لتحقيق هدف المحافظة على الحدود والخروج من الأزمة ويشكل عنصر حماية للوطنية السورية التي رسخت قيم التسامح والإخاء من مضموناتها غير أن هذا العنصر «التسامح» يعاني من إشكاليةٍ تاريخيةٍ بمعنى عدم لَحظِهِ للتطورات الكبيرة والكثيرة التي تم إدخالها ومن ثم استبطانها في الذهنية والوجدان السوريين سواء عبر الهجمة الدينية التي ابتدأت منذ حكم الاحتلال العثماني وزادت في السنوات الأخيرة نتيجة حملة دعمٍ عالمي للإيوديولوجية الدينية الشكلانية دون إيمان حقيقي.
الأمر الآخر هو المحددات الاجتماعية الموروثة سواء بعاداتها أم بجهاوتيها والتي لم نستطع حتى اللحظة تجاوزها وبعضها كانت أحد مسببات الأزمة الحاصلة.
أما الهدف الثاني للعقل السياسي فهو النهوض الاقتصادي بهويةٍ وطنيةٍ ومقدراتٍٍ ذاتيةٍ يرافقه حالة الوعي والإدراك بأن يكون رأس المال وطنياً ومحركهُ الحالة الوطنية، ولعل النهوض الاقتصادي من وجهة نظر التفكير العقلاني السياسي هو أفضل وسيلةٍ لخروج شرائح المجتمع من بوتقاتهِ المختلفة وتحرره وتمدنه ما سيعكس حالة من الوعي الاجتماعي والوطني.
وهذا يلزمه أيضاً أن يكون الاقتصاد منتجاً لا ريعياً، وأن يكون بنظام مؤسسات وشركات لا بفكرة العشيرة والقبيلة.
لقد كان طموح العقل السياسي في فترةٍ من فترات النهضة الحديثة للبلاد بعد زوال مرحلة الاستعمار وبعد أن نقطع محددات العقل السياسي والتي كنا نفكر بتجاوزها وذلك من خلال الأخد بما وصلت إليه سورية قبل عام 2010، وأيضاً من خلال الطموح للوصول إلى مصاف الأمم المتقدمة علينا في الشأن السياسي وآليات التعاطي معه، ولكن كما قال الشاعر المتنبي:
ما كلِ ما يتمنى المرءُ يدركهُ
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ولكن ما حصل في العقد الأخير فعل فعله في واقعنا الجديد القديم حيث فشلنا في إقامة دولةٍ وطنيةٍ جامعة تتجاوز عصبيات ما قبل «الدولة» التي كنا نظن بأنها قد ذوت ولكنها عادت وخرجت من قارة لا وعينا فَحَكمت وعينا أي إن «لا الشعور الجمعي» عاد للتحكم في شعورنا الحالي وأخذنا بوجهة نحو اتباع سنة أجدادنا التي حكمت سيطرتهم على مر التاريخ!
أنا هنا لا أريد هجاء ماضينا، بل إنني أتألم من أن نبقى أسرى له بعجره وبجره وهو الذي تشكل في مراحل تاريخية خاصة به تجعلنا نتفهم ذلك باعتباره ينتمي لسياقات اجتماعية واقتصادية وثقافية مرهونة بشروط واقعية آنذاك، وبالتالي لا يمكن مطالبة من عاشها أن يكون متقدماً علينا ولكن الواجب علينا أن نحلل ونتعرف على ما حدث وجرى حتى نتجاوز سلبياته ونتواصل مع ما فيه من قيم إيجابية لنضيف عليها ما أنتجه العقل الإنساني الحديث والمعاصر، وكذلك وفق قاعدة «القطيعة والاتصال».
لا ننكر أن كل شعوب الأرض قد عرفت مراحل تاريخيه تشبه ماضينا وحاضرنا ولكنها لفظت عن نفسها نزعة الحنين إلى الماضي أو العيش فيه فتجاوزته على مراحل حتى نجحت في ذلك، بينما بقينا نحن نسكن في ماضينا ولا نريد الخروج منه بحيث يُخيل للناظر إلينا بأننا نعيش في العصور الوسطى ولم ندخل بعد حقبه التاريخ الحديث.
إذاً عادت المحددات التي ذكرها الجابري في كتابه عن العقل السياسي وهي القبيلة والعقيدة اللتان تحكمتا في تاريخنا فالقبيلة نافست الدولة الوطنية حين تطلعت للاستئثار بكل شيء وفقاً لتقاليدها وقوانينها.
أما المحدد الثاني الذي سيطر على وعينا الجمعي فهو «العقيدة» حيث تمظهر وتجلى في إيديولوجيات دينية تقدم نفسها على أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وبالتالي حقها في تنفيذ مشروعها المتمثل في إقامة «الدولة الدينية» فاستدمت مع باقي «القبائل الدينية» المنافسة لها التي تزعم هي الأخرى امتلاك حقيقة الدين والدنيا،
وهكذا تعرض عقلنا للاغتيال مرةً أخرى بعد أن أُغتيل أول مرة في تاريخه القديم على يد من حرم الفلسفة والتفلسف، ها هو يُغتال مرة أخرى على يد هؤلاء القابضين على الحقيقة المطلقة حسبما يزعمون!
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن أن نصنع أثراً بسيطاً من شأنه أن يخلق تغييراً كبيرا في المستقبل؟
بتقديري يمكننا أن نتجاوز المحددات التي تحكمت في آلية اشتغال عقلنا السياسي عبر تاريخنا الطويل ويكون ذلك باستبدال روابط مرحلة «ما قبل الدولة» إلى مرحلة تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على أسس تكفل بناء مجتمع يستند إلى قيم المواطنة كهوية جامعة ومتجاوزة للهويات الفرعية سواء أكانت قائمة على صله القرابة أم الدين أم المذهب، وذلك قابل للتحقيق إن اتفقنا جميعاً على ضرورة قيام الدولة الديمقراطية المدنية التي تعمل وفق مبادئ المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية والحرية الفردية والمساواة بين جميع مواطنيها، فإذا عزمنا وتوافقنا على ذلك فربما تجري رياحنا بما نشتهي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن