قضايا وآراء

الأميركيون فقدوا «هواهم» الإمبراطوري

| عبد المنعم علي عيسى

لم يرتبط حدث صعود القوة الأميركية وانفرادها بالسيطرة العالمية باسم كما ارتبط بـ«فرنسيس فوكوياما» المفكر الأميركي من أصول يابانية صاحب نظرية «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» ذائعة الصيت التي أطلقها في البداية عبر مقال يحمل هذا الاسم كان قد نشره في مجلة «انترناشيونال انترست» العام 1989، قبيل أن يعمد إلى توسيعها، بعدما تلقفتها أوساط النخب الأميركية كما تتلقف الأرض العطشى الماء، ويضعها في كتاب يحمل نفس الاسم أيضاً أصدره في العام 1992 واضعاً نفسه كمنظر أول لعصر القوة الأميركي وسيادته العالمية.
قامت نظرية فوكوياما سابقة الذكر، على فكرة أساسية مفادها أن تطور التاريخ البشري كصراع بين الإيديولوجيات قد انتهى إلى حد كبير، والمقصود هنا بنهاية التاريخ هو كاتجاه وليس كأحداث، مع استقرار العالم على نهج الديمقراطية الليبرالية الذي ساد بعيد سقوط جدار برلين العام 1989، الحدث الذي أرخ لنهاية الحرب الباردة التي كانت تمثل بالدرجة الأولى صراع إرادات ما بين نموذجين شديدي التناقض، والنظرية تحمل في طياتها نبوءة تقول إن هذا الانتصار لليبرالية السياسية والاقتصادية لم يكن حتمياً فحسب، بل ونهائياً بدرجة لا يدانيها الشك.
كانت أفكار فوكوياما أشبه ما تكون بـ«إكسير الحياة» لجسد إمبراطورية بدا وكأنه يريد البقاء بحيويته وشبابه الدائمين، ولربما كان يريد إثبات زيف نظريات علم الاجتماع المعروفة والتي تقول بحتمية مرور الإمبراطوريات أو الدول، بمراحل ثلاث تبدأ مع الفتوة لتصل إلى الشباب الذي تليه شيخوخة لا مناص منها، ولربما كان ذلك هو أولى الموجبات التي قادت إلى انتشارها في أوساط النخب السياسية والثقافية التي تمثل الحامل الذاتي للمشروع الإمبراطوري الأميركي، فهي جاءت لتوقظ في الذات الجماعية المستهدفة إحساساً باستثنائية التجربة التي تخالف كل التجارب السابقة، وعليه فإن من حقها اعتناق الحلم الذي يقوم على إمكان ديمومة الشباب والتوهج وصولاً إلى الخلود، لكنها في مقلب آخر كانت قد اكتشفت، بمرور الوقت، أن التصعيد الدائم هو السبيل الوحيد لذلك الخلود، الأمر الذي لم تستو حساباته تماماً في سياق التجربة، حيث سيؤدي الفعل من حيث النتائج المستحصلة إلى ترك «ندبات» على السطح من النوع الذي يصعب علاجه هكذا دفعة واحدة، وفي التراجم أدت لحدوث انزياحات مخلة بالتوازنات الداخلية، وهي من القوة بحيث أرست لنوع من الانقسام داخل المجتمع الأميركي، الأمر الذي لن يتأخر فوكوياما في لحظه.
أواخر شهر آب الماضي نشر فوكوياما مقالاً في صحيفة «ذي ايكونوميست» بعنوان «نهاية الهيمنة الأميركية»، مسجلاً فيه تراجعاً، وتلك فضيلة في الفكر، عن نظريته السابقة التي أعطت للإمبراطورية الأميركية بريقاً وتوهجاً لربما لم تمنحه لها العديد من عوامل القوة المتوافرة لديها، فبعد ثلاثة عقود كانت حافلة بإظهار «قوة المخلب» سيقول المنظر «إن الاستقطاب الاجتماعي والسياسي داخل الولايات المتحدة الذي توسع بفعل حروب التوسع والسيطرة التي خيضت في غضون العقود الثلاثة الأخيرة، والعولمة التي قادتها، والأزمة المالية والاقتصادية ما بين 2008 – 2009 بات عاملاً رئيسياً في إضعاف موقعها الدولي»، ليخلص في نهاية مقاله إلى نتيجة تستدعي قرع ألف جرس إنذار في أرجاء بلاد العم سام، وفيها يقول: «إن المجتمع الأميركي منقسم بعمق وأصبح يعاني صعوبات جمة للوصول إلى إجماع حول أية قضية».
من المؤكد هو أن الكثير من الدلائل الملموسة تشير إلى صحة ما ذهب إليه فوكوياما في جملته الأخيرة، بل لربما كانت الوقائع تستدعي توصيفاً أحدّ من هذا الذي كرسه فيها، ففعل الاستقطاب حاصل بفعل موضوعات عدة تبدأ عند الضرائب والإجهاض ثم تصل في حدودها إلى الخلاف حول الهوية الثقافية للحضارة الأميركية، الأمر الذي كانت له انعكاسات على السطح السياسي تمظهرت بشكل فاقع في انتخابات العام 2000 والعام 2020، التي اهتزت فيهما العملية الانتخابية بشكل غير مسبوق، ومن الراجح هو أن المستقبل سيحمل المزيد من تلك الطبعات التي إن حدثت فلسوف تكون أكثر حدة، وهي ذات تأثيرات أعمق بما لا يقاس.
من الجائز هنا الاستنتاج بأن فوكوياما أراد القول إن الإفراط في استخدام القوة الخارجي كانت له تداعيات كبرى على دواخل الكيان الاقتصادية والسياسية وحواملهما الثقافية والفكرية، مع لحظ أن هذه الرباعية كانت متناغمة في أدائها إبان عصر الصعود الأميركي مابين عامي 1945 – 2003، إلا أنها، أي تلك الرباعية، لم تعد كذلك بعيد هذا الحدث الأخير، حيث ستؤدي تداعيات حربي أفغانستان والعراق لحدوث تحولات مجتمعية كان لها أثر كبير في طبيعة المزاج العام واتجاه الشارع السائد اللذين بدا وكأنهما سئما من الحروب التي لا نهاية لها، بل والتي راحت تصفها بعض النخب بـ«العبثية» التي لا طائل منها.
بهذا المقياس قد تكون الهزيمة في أفغانستان التي وصفها فوكوياما بأنها «منكرة» هي الهزيمة الصغرى، أو هي الشقيقة الأصغر لأخت كبرى تتمثل في أن تلك الهزيمة، التي لم تكن إلا تتويجاً لسلسلة من الهزائم كانت قد حدثت بفعل التفاوت في الأداء ما بين سلاح متفوق وإستراتيجيات متواضعة، قد دفعت بالأميركيين نحو فقدان «الهوى الإمبراطوري» الذي شكل، عندما كان غالباً لديهم، عامل قوة في صعودهم وهيمنتهم، تماماً كما حصل مع البريطانيين، الذين عزا مؤرخهم البارز نيل فيرغسون أسباب أفول شمس إمبراطوريتهم لعدة أسباب، لكن السبب البعيد الذي يكمن وراءها كلها، وفق تشخيص فيرغسون، هو فقدانهم لهواهم الإمبراطوري.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن