ثقافة وفن

الإنتاج لا الشخص

| إسماعيل مروة

اتهم عباس محمود العقاد ذات يوم بأنه عميل للألمان في أثناء الحرب، وفي الوقت نفسه اتهم بأنه يعمل مع الإنكليز، والدولتان في معسكرين مختلفين تماماً، الحلفاء والمحور! وفي الوقت نفسه اتهم اتهامان متناقضان فكريان، فلأنه ألف العبقريات الإسلامية ابتداء من عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، اتهم بأنه مفكر إسلامي متعصب للإسلام، فهو إسلاموي الإيديولوجيا حسب التعبير السائد سياسياً، وآخرون اتهموه بأنه رجل علماني لا يحمل فكراً إسلامياً سليماً لأنه ألف العبقريات، فلا يجوز حسب رأيهم أن يكتب العبقريات، ولا أن ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم، سمة العبقرية، بل سمة النبوة، وكأنه عندما نسب إليه العبقرية نفى عنه سمة النبوة! أو كأن سمة النبوة تتنافى مع العبقرية والذكاء والمعرفة! فالعبقري عندهم يمكن أن يبتدع من ذاته، وكأن الأمر ينفي عنه الوحي!
عباس محمود العقاد، جاحظ العصر العربي الحديث، الذي لم يحمل الشهادة الابتدائية، وترك لنا خمسة وعشرين مجلداً من المؤلفات التي يعجز أصحاب الشهادات العليا اليوم عن قراءتها وفهمها وإدراك أبعادها، عباس محمود العقاد الذي أتقن الإنكليزية ونقل عنها، عباس الذي كان شاعراً حداثياً من أصحاب النزعة الحداثية في الشعر في مواجهة أمير الشعر الاتباعي أحمد شوقي، ما دفعه للتعاون مع صديقه الحداثي الآخر إبراهيم عبد القادر المازني لكتابة سلسلة دراسات انتقادية في شوقي وشعره، وشكلا معاً مدرسة نقدية بنفسها سميت مدرسة الديوان نسبة إلى كتابهما، وهما في الحقيقة لم يهاجما شوقي وحده، بل هاجما التيار الاتباعي كله من خلال شوقي أمير الشعر، لأنهما أرادا حركة شعرية حداثية شكلاً ومضموناً، ولن يتحقق لهما ذلك إلا من خلال تحطيم مثال الشعر الاتباعي السائد، وهو ما جعل دراستهما الديوان تقع في مطبات كثيرة دالة على الظلم والتجني!
هذا الحداثي يتهم بأنه كاتب تقليدي ماضوي، عباس محمود العقاد الباحث الموسوعي الذي قدم دراسات رائدة في الشعر والنثر والشخصيات، وقد يكون من أكثر الدارسين عمقاً عندما درس ابن الرومي وسواه وفق المنهج التحليلي النفسي، فكانت دراسته رائدة في علم النفس، فسرق الباحثون منهجه ودراسته، ولم ينسوا أن ينتقضوه وأن يتهموه بأنه درس هذه الشخصيات وفق هذا المنهج، لأنه كان صاحب عقدة نفسية، فالعقاد عند الأفاضل كان مريضاً ومعقداً..
أسوق هذه الاتهامات من الانتماء إلى الفكر إلى المنهج لأبيّن المشكلة الحقيقية في فكرنا. هذه الاتهامات على كثرتها وتنوعها انهالت على عباس العقاد وكما على سواه من المفكرين والمتنورين والمبدعين، لم تستطع أن تفعل شيئاً، وإنما حاولت الإساءة لسيرة هؤلاء الأعلام الكبار والمبدعين، والآن بعد أن رحلوا عن دنيانا ننظر في إبداعاتهم التي تجاوزت من حيث الكم والنوع ما يمكن أن يقوم به شخص أو مؤسسة من المؤسسات التي تهتم بالفكر والأدب.. ماذا جنينا من الاتهامات؟ هل كانت هذه الاتهامات حقيقية؟ هل جاء، وهو الذي أبحث عنه، من يقوم برد الظلم عن هذا المبدع أو ذاك؟ هل هناك من فنّد الآراء ليقول: إن هذا الناقد مال معبِّراً لأسباب سياسية، ومال إلى جانب نكاية بمحتل ومحوره، واتخذ موقفاً من باب التقية لينجو ويبقى معطاء، هذا إن كان الميل حقيقياً ولم يكن من بنات أفكار الذين اتهموه!
ذاق العقاد مما أذاق منه شوقي من حيث الاتهامات والنقد والتجريح، ولم يكن ثمة من تفريق بين التنافس وعداوة المهنة، وبين العداوة الشخصية! وها هو كم هائل من النقد هنا وهناك يتوجه إلى الشخص وحياته، ولا يتوجه إلى الإنتاج بصورة فنية وفكرية وعلمية! فلنقف عند النتاج وما يقدمه المبدعون لننطلق إلى آفاق واسعة من الإبداع، ولنجعل ما قدموه ركيزة لبنية فكرية قادمة، وألا نعود مجدداً لاختراع ما سبقونا إليه بأشواط بعيدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن